هل تذكرون يوم 7 آب 1910؟!..أوّل معركة لتحرير المرأة في العراق..

Sunday 5th of August 2018 06:36:02 PM ,

ذاكرة عراقية ,

إعداد : ذاكرة عراقية
لم يكن الشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي يعلم أنه يسبح ضد تيار التقاليد الجارف عندما نشر مقالته الشهيرة عن المرأة في الشرق في جريدة مصرية، ولعله كان يعتقد أن الجريدة لن تصل الى بغداد ولا يتنبه أحد الى مقالته الجريئة وما فيها من أفكار لا يستسيغها الكثيرون من المتعلمين والعوام على حد سواء. ومهما يكن، فقد اعتبرت تلك الحادثة وما تضمنته من تداعيات المحاولة الأولى في تاريخ تحرير المرأة في العراق ومن أولى المحاولات في الشرق.

يذكر الأستاذ عزرا حداد في العدد الخاص من مجلة (الحاصد) لصاحبها أنور شاؤل عن الأستاذ الزهاوي وعصره فيقول :
يندر أن شهد الشرق العربي خلال نهضته الأدبية الحديثة شاعراً اتسم بطابع العصر الذي عاش فيه وارتبط تفكيره ارتباطاً محكماً بالمحيط الذي شب فيه وترعرع مثل شاعرنا الجليل الراحل جميل صدقي الزهاوي، فقد يجد البعض في شعره حباً عامراً بالعواطف فياضاً بالإحساس الرقيق، وقد يفهم البعض من قصائده فلسفة عالية ومواعظ سامية.
لكن هذا الشعر على اختلاف موضوعاته وتباين نزعاته، سوف يبقى أبداً سجلاً ناطقاً وصورة واضحة جليّة للعصر الذي عاش فيه الزهاوي، وتاريخاً جامعاً للحوادث والتطورات السياسية والعلمية والاجتماعية التي شهدها شاعرنا الكبير خلال هذه الحقبة الطويلة من السنين التي قدّر أن يعيشها فوق الغبراء.إنما يخلد الشاعر بآثاره. وهذه الآثار قليلة كانت أم كثيرة لا تكون لها ميزة الخلود إن لم تكن تعبر تعبيراً صادقاً صحيحاً عن روح العصر ونفسية أهله ووجهة نظرهم و محيطهم وثقافتهم..
لندع الأستاذ خيري العمري يحدثنا عن تلك الحادثة الشهيرة الطريفة في كتابه (حكايات سياسية) ونلتقط منه مايلي :

كان الشاعر جميل صدقي الزهاوي أثناء تدريسه بمدرسة الحقوق يراسل مجلة"المقتطف"، وجريدتي"المقطم" و"المؤيد"، حتى إذا كان اليوم السابع من أغسطس/ آب عام،1910 طلعت جريدة "المؤيد"وبها مقالة الزهاوي تحت عنوان"المرأة والدفاع عنها - صوت إصلاحي من العراق"،
يتحدث فيها عن أثر المرأة في حياته منذ كان طفلاً، ثم شاباً وشيخاً، وينتقل فيتناول قضية المرأة تناولاً منطقياً، فيرى أن سيادة الرجل ليس لها ما يبررها، كما يعدد من خلال المقال الجوانب التي هضم فيها الرجل حق المرأة.
فقد انزلق الزهاوي إلى الهوة، وأسرف على نفسه وعلى قرّائه، ففي بداية المعركة، كان يتتبع خطى قاسم أمين في موضوع الطلاق تحديداً، إلا أن قاسم كان أكثر فهماً وأشد عمقاً في تحليله للموضوع، ولكن الزهاوي مسّ الدين حين انتقل من الحديث عن التقاليد إلى الحديث عن التشريع. وإذا كان الزهاوي قد أدخل الدين سبباً، فقد أخرجه من قبل قاسم أمين حين قرأ عن شهيدات النساء المسلمات، بل حين رجع إلى أصول الإسلام الأولى ورأى مكانة المرأة السامية كما رسمها الدين، وحين عرض قاسم لحقوق المرأة لم يقل ما قاله الزهاوي، وإنما قارن بينها وبين الرجل، ولكن الزهاوي تأثر بقاسم حين عرض لمسألة الحجاب، فرآه من أسباب الفتنة إذ هو يخفي شخصيتها، ولم يقف قاسم موقف الزهاوي المتعجب من وجود العصمة بيد الرجل، لأنه يعلم أن الدين قد منح المرأة الحق في أن تكون العصمة بيدها إن شاءت، هكذا تأثر الزهاوي بقراءته لتحرير المرأة، ولكنه تجاوز آراء قاسم في كثير من النقاط، واشترط في مطالبه، وخانه التوفيق في العرض، وإذا كان البعض يأخذ عليه أنه دعا للسفور ولم يسمح لزوجته بأن تخلع الحجاب، فقد فعل ذلك قاسم أمين من قبل، لأنه رأى أن للطفرة أسوأ العواقب، وأن الدعوات الإصلاحية تأخذ طريقها تدريجياً إلى قلب المجتمع.
ومثلما تعرض قاسم من قبل لضروب من المضايقات، تعرض الزهاوي، فلم تكد تصدر المقالة في مصر حتى تناقلتها الأفواه في العراق، والعراق قطر متمسك أشد التمسك بالتقاليد الموروثة، ومن الروايات المتوارثة في بغداد آنذاك، أن ثلاثة من الشباب طرقوا منزل الزهاوي بعد مقالته هذه، فلما سألهم عن حاجتهم أجابوه أنهم يريدون أن يتزوجوا حليلته حتى يحققوا بعض رغباته في المقال حين أنكر على الرجل أن يتزوج بأربع نساء ويظلم المرأة حين يحبسها على رجل واحد، وتملك الرعب قلب الزهاوي ولم يستطع أن يتخلص منهم إلا بعد جهد شديد.
وخشي الزهاوي عاقبة هذه الثورة، فكتب إلى ناظم باشا والي بغداد يومئذ يقول:"أسمع أن أحد المشايخ المتلبسين بالتقوى في بغداد -هذا البلد الذي يسيطر عليه حكم الدستور وعدلك الواقي- أخذ يدير رحى فتنة، فقام يحرض الجاهلين على الإيقاع بي باسم الدين البريء من الظلم جزاء مقالة اجتماعية نشرت بإمضائي في"المؤيد"كما في"تنوير الأفكار"دفاعاً عن المرأة، وهي عدا كونها شبهات ضعيفة استفهامية تزول من نفسها، لم يتعين بعد أكاتبها أنا، أم هي مزوّرة على لساني من عدو لي في العراق، الذي أرجو من الحكومة الدستورية ألا تقتص من الصابغين أكفهم بدمي إذا كان ما يريده المحرضون -أظنهم أكثر من واحد- بل تعني بتعليمهم وإنقاذهم من الجهل لئلا تمتد أيديهم في المستقبل إلى منكد آخر على مثلي، يتمنى في كتاباته إصلاحاً للأمة اجتماعياً".
فقد تنصل الزهاوي من مقاله بعد أن خشي عاقبتها، وتملكه الرعب فقبع في بيته ينتظر مرور الأزمة بينما زاد هذا الموقف نفسه قاسماً من قبل إصراراً على رأيه، وجمع حجج المعارضين ثم فنّدها في كتابه"المرأة الجديدة"، غير أن الأزمة لم تمر، وبدأت الغيوم تتلبد في سماء حياة الزهاوي منذرة بالخطر، فقد ثار مع الثائرين العلامة مصطفى نور الدين الواعظ، وقابل الوالي، وبين له أثر المقالة الخطير في المجتمع وخروج صاحبها على أحكام الشرع، ولم يُجد الزهاوي ذلك التنصل المشبوه، وكانت النتيجة أن عزله الوالي من وظيفته بمدرسة الحقوق.
ولم تهدأ المعركة عند هذا الحد، بل ارتفع غبارها في العراق حتى وصل إلى مصر، فشارك بعض أدباءها في المعركة، وشرعوا سيوفهم يتنازعون الموقف بين مؤيد ومعارض، نثراً وشعراً.
أما في العراق فقد سكتت الأصوات إلا صوت رجال الدين، مثل محمد سعيد النقشبندي مؤلف كتاب"السيف البارق في عنق المارق"، وفي مصر تردد صدى المعركة القومية في كتاب"المرأة في الإسلام"لمحمد حمدي النشار الشاعر، وقد أسمى مقالة الزهاوي“العراقية"بعد أن حاول شاعرنا التنصل منها، وسمى صاحبها"الأستاذ العراقي".
ولكن إذا كانت هذه المعركة قد هزت الزهاوي وجعلته يحاول التنصل من المقالة أمام الناس، فهل غيّر رأيه؟ الواقع أنه ثبت على رأيه بعد ذلك، والذي يقرأ ديوانه المطبوع عام 1924 يجد عدة قصائد في المرأة كلها تدور حول تمسكه بهذا الرأي.
ولم تدم المعركة طويلاً، فقد هدأ غبارها بعد عام واحد، وبدأ الشاعر يضمد جراحه التي خرج بها من المعركة، ويقول الشعر الذي ثبت فيه على رأيه والذي هجا فيه الوالي، عام واحد عزل بعده الوالي نفسه، وجاء والجديد هو جمال باشا، فأعاد الزهاوي إلى مدرسة الحقوق، ونفض الشاعر عنه غبار المعركة.