جمال باشا السفاح في بغداد في 26 آب 1911 .. انتخابات نيابيّة وصراعات حزبيّة

Sunday 19th of August 2018 07:12:56 PM ,

ذاكرة عراقية ,

مواهب معروف الجبوري
أصدر الباب العالي في السابع عشر من آذار عام 1911، أمراً بعزل الوالي ناظم باشا عن ولاية بغداد، فغادرها صباح العشرين من آذار، على ظهر باخرة من بواخر"لنج"متوجهاً إلى البصرة ثم توجه من هناك إلى استانبول، وظل يوسف أغا باشا والياً على بغداد بالوكالة زهاء خمسة أشهر، حتى وصل إليها الوالي الجديد جمال بك، في السادس والعشرين من آب واستقبله (كسائر الولاة)

في الفلوجة معاون الوالي لطفي بك والفريق يوسف أغا باشا وكيل الوالي ووكيل مفتش الفيلق الأول وقائد الفيلق الثالث عشر، والأمراء الأشراف وأطلقت له إحدى وعشرون إطلاقة مدفع كالمعتاد.

حاولت جمعية الاتحاد والترقي السيطرة على الوضع في جميع البلاد العثمانية، خصوصاً بعد أن أدركت الجمعية حقيقة نمو أحزاب معارضة لسياستها، وتمهيداً لعقد الصلح مع إيطاليا، رأت الجمعية ضرورة حل مجلس المبعوثان العثماني وتشكيل مجلس جديد، ولأجل ذلك مارست جمعية الاتحاد والترقي الضغط على السلطان محمد رشاد لحل المجلس، وتمت الموافقة بإصدار الإرادة السلطانية في الثامن عشر من كانون الثاني 1912، وفي أواخر شهر كانون الثاني 1912، بدأت انتخابات مجلس"المبعوثان"العثماني.
كان إدراك جمعية الاتحاد والترقي لانهيار شعبيتها ونمو الأحزاب المنافسة لها، قد حمل الجمعية على بذل جهود كبيرة واتباع مختلف الوسائل سواء كانت المشروعة أو غير المشروعة من أجل إنجاح مرشحيها في الانتخابات، وقد أصدر الاتحاديون أوامر سرية تدعو إلى حمل الناس على انتخاب مرشحي الجمعية حتى لو اقتضى الأمر استخدام أساليب الإكراه.
أما في بغداد فقد قام الوالي جمال بك باتباع مختلف أساليب الترغيب والترهيب والوعيد تمهيداً لعملية الانتخاب، وأبدى أعيان بغداد ووجهاؤها مقاومة نشطة لإدارة الاتحاديين، وأظهر الأعيان نفوراً من الوالي جمال بك، ففي صيف عام 1911 وصلت الأمور إلى حد الهجوم المكشوف عليه، ونظمت مجموعة المحافظين المتنفذين برئاسة عيسى الجمالي، تظاهرة للدفاع عن رئيس تحرير جريدة (الصاعقة) صادق العرجي، الذي اعتقل بسبب نقده للوالي جمال بك، واضطرت الحكومة المركزية في نهاية المطاف إلى التدخل في القضية، وأصدرت التعليمات بالإفراج عن المعتقل.
جرت الانتخابات في بغداد في ربيع عام 1912، وكانت انتخابات حامية تختلف عما جرى من قبل، وشهد العراقيون صراعاً حزبياً بين المرشحين، وقد بذل الوالي جمال بك جهوداً كبيرة في إنجاح المرشحين الاتحاديين ضد خصومهم بأن استخدم مختلف أساليب الترغيب والترهيب والوعيد والتلاعب في عملية الانتخاب عن طريق حرق الأوراق الانتخابية وتزويرها، مما أثار استياء أهالي بغداد وكانت النتيجة فوز الاتحاديين في جميع الألوية، عدا البصرة والعمارة، إذ فاز فيها الائتلافيون بقوة السيد طالب النقيب.
وبعدما أسفرت الانتخابات النيابية عن فوز الاتحاديين في بغداد، احتفلوا في نادي حزب الاتحاد والترقي بالنواب المنتخبين في الولاية، فخطب والي بغداد جمال بك خطبة بليغة، عدّد فيها مآثر الاتحاديين وأعمالهم في خدمة الدولة العثمانية، وانهال على خصومهم بالإقذاع والإيلام، وخطب أيضاً جميل صدقي الزهاوي قائلاً"أنه يعيش اتحادياً، ويموت اتحادياً، ويلاقي الله بوجه الاتحاديين".
كان الائتلافيون العثمانيون – في هذه الفترة – قد ألفوا حزبهم المعارض، واختاروا السيد مصطفى الواعظ ليكون وكيلاً عنهم في تأسيس فرع لحزبهم في بغداد، وقد غادر السيد مصطفى استانبول في التاسع عشر من شباط عام 1912 متوجهاً إلى بغداد فوصلها بعد شهر، وقد دعا الواعظ بعضاً من وجهاء بغداد وهم: عبد الرحمن النقيب، عيسى الجميل، عبد الرحمن باشا الحيدري، على أفندي الآلوسي، يوسف السويدي.
إلى عقد اجتماع لهم في داره واتفقوا خلاله على التصدي للوالي جمال بك وكشف ألاعيبه وأرسلوا البرقيات إلى المراجع العليا، إلا أنهم لم يتلقوا جواباً منها، بالمقابل عمد الوالي جمال بك إلى محاولة استمالة السيد مصطفى الواعظ وبعض الوجهاء من بغداد للانضمام إلى جمعية الاتحاد والترقي.
وأخذ السيد مصطفى الواعظ بتأسيس فرع لحزب الحرية والائتلاف ببغداد، واستأجر له داراً خاصاً به، وعلّق على جدرانها لافتة كتب عليها: (الائتلاف خير من الاختلاف) وقد انضم إلى الفرع كثير من الشباب المتعلم، أمثال كامل الطبقجلي صاحب جريدة (بين النهرين)، وحمدي الباجه‌ جي، وشكري الفضلي ومحمود أديب وعمر نظمي وجمال بابان، وغيرهم، وكان هذا الفرع مدعوماً من السيد طالب النقيب في البصرة.
فضلاً عن حزبي الحرية والائتلاف، تألف في عهد جمال بك والي بغداد (النادي العلمي الوطني) في بغداد وانضمت إليه مجموعة من الشباب النابه اليقظ، وقد انتخب مزاحم بك الباجه‌جي لرئاسة النادي. والنادي العلمي الذي أسسته إدارة"جمعية العهد"السرية في بغداد أواخر آذار 1913، للتمويه على السلطة وإزالة شكوكها التي كانت تحوم حول نشاط الجمعية السري، أسس ليكون فرعاً لحزب اللا مركزية العثماني بمصر، وأهم مؤسسيه حمدي الباجه‌جي، ومزاحم أمين الباجه‌جي، بهجت زينل، رؤوف غنام، أصدر النادي جريدة باسم النهضة في 3 تشرين الأول 1913.
إن تأليف كل من حزب الحرية والائتلاف والنادي العلمي الوطني في بغداد واجتماع شباب بغداد في هذا وذاك، أثار نقمة الاتحاديين اتجاه خصومهم، فلما علم جمال بك بالاجتماع الذي حصل بين الواعظ وعدد من وجوه بغداد، عمد إلى الحيلة في مفاوضة السيد مصطفى الواعظ واجتذابه إلى حزب الاتحاد والترقي، فزاره في بيته وظل يحاوره ويغريه، وتعهد له بتعيينه عضواً في مجلس الأعيان، فلم يوفق في إقناعه فعمد جمال بك والي بغداد إلى مفاوضة عبد الرحمن النقيب، وتعهد له بتعيين ابنه نائباً عن بغداد إن هو تخلى عن كتلة الوجهاء المناوئة للاتحاديين، وقد نجح جمال بك في ذلك واستجاب له عبد الرحمن النقيب، مما سبب انهيار الكتلة وتشتت أعضائها. كما لجأ جمال بك إلى تعيين توفيق الخالدي. وهو ضابط درك متعاطف مع الاتحاديين وكيلاً لمدير الشرطة حتى يتسنى له إجراء الانتخابات بالطريقة التي تضمن نجاح الاتحاديين فيها.
ورغم الأساليب التي اتبعها جمال بك إلا أنه لم يستطع تحقيق نجاح إسماعيل حقي بابان النائب السابق في بغداد، وإن كان قد نجح في انتخابه نائباً عن الديوانية، الأمر الذي جعل جمال بك يسجن مختاري الأعيان في بغداد لفشلهم. وقد أدى تمادي الاتحاديين في الانتخابات إلى وقوع بعض حوادث القتل مما اضطر الأهالي في الديوانية إلى إطلاق النار على متصرفها وقائد الدرك فيها فجرح الأول جرحاً بليغاً. ولكن جمال باشا قدم استقالته من ولاية بغداد في الثاني والعشرين من تموز 1912 نتيجة لتسلّم الائتلافيين الحكم في استانبول، غادر جمال بك بغداد في السابع عشر من آب 1912، ودعته مجموعة كبيرة من أهالي بغداد عندما اجتمعوا في الساحة القريبة من مسجد الجنيد البغدادي، فخطب فيهم خطبة مسهبة قوى فيها عزيمة الاتحاديين وحثهم على مواصلة العمل الذي تقضي مبادئ حزب الاتحاد والترقي، ثم ختم خطبته بقوله"قد تظنون أني أستقيل من ولاية بغداد خشية من معاكسة الوزارة لما أريده هنا، فإذا كان ظنكم هذا فغلطاً ما تظنون، والواقع إني إنما سارعت باستقالتي لأستطيع الذهاب إلى الاستانة، فهناك أستطيع العمل على إسقاط وزارة الائتلافيين".

عن رسالة : جـمال باشا حياته ودوره السياسي