كيف انشئت مدرسة عادل في بغداد.. وما حكاية المرأة الحديدية؟

Sunday 26th of August 2018 06:54:55 PM ,

ذاكرة عراقية ,

عمار بغدادي
مختص في تاريخ العراق
في معظم الدول العربية اليوم تتصدر المدارس الخاصة حديث المجتمع المخملي وخاصة مدارس اللغات والمدارس الاجنبية والدولية مثل المدرسة الامريكية والمدرسة الانكليزية والفرنسية وصار التنافس على اشده بين تلك المدارس في مستوى الاجر والتعليم والمباني التي تقدمها كل مدرسة للطالب

وكذلك بين الاهالي على ايجاد افضل مدرسة لتعليم اولادهم بل صارت المباهاة بين العوائل عن اي مدرسة يتعلم فيها اولادهم وكم يدفعون سنويا حتى اذا كان الطالب من فئة غبي خمس نجوم ولكن في العراق القديم الزاهي كانت هناك سيدة لبنانية الاصل زوجة لاستاذ تربوي اسمه انيس عادل عرفت عراقيا باسم مدام عادل وشقيقتها المربية الفاضلة فكتوريا، هذا الثلاثي التربوي اللامع قام بتأسيس مدرسة اهلية في بغداد عرفت باسم مدرسة عادل الاهلية ولايحضرني هنا تاريخ افتتاح المدرسة المحصور بين ثلاثينيات القرن الماضي او الخمسينيات.

اتخذت هذه المدرسة من قطعة ارض شاسعة المساحة بحسابات ذلك الزمان تقع في منطقة العلوية المقابلة تماما لمنطقة بارك السعدون ومقابل كنيسة السبتيين وبالقرب من شارع الزعيم عبد الكريم - سمي باسمه لانه كان يسكن في بيت متواضع مؤجر من بيوت هيئة الاموال المجمدة يقع في ذلك الشارع.
هذه المدرسة كانت مكونة من ثلاث بنايات واحدة تحتوي على صفوف وقاعة كبيرة للالعاب مخصصة لصفوف الروضة والتمهيدي ومكاتب الادارة والمطعم الذي كان يقدم وجبة الغذاء للطلاب وبنايتين أخريين لصفوف المرحلة الابتدائية من الاول الى السادس،وكانت المدرسة تحتوي على حديقة خلابة كبيرة المساحة تحتوي على مسرح صيفي وهناك خلف الحديقة مشتملات لسكن الحراس والعمال والطباخين وكان هناك ايضا قسم داخلي لبعض الطلاب وساحة للرياضة وكان للمدرسة باصات تنقل الطلاب من والى المدرسة في ذلك الزمان كانت مديرة المدرسة هي مدام عادل وتساعدها اختها فكتوريا ولكن لمدام عادل شخصية فريدة،كانت بكل معنى الكلمة مربية بشخصية المرأة الحديدية كانت مرعبة للطلاب وللكادر التدريسي على حد سواء، كان طلاب المدرسة من ابناء خيرة عوائل بغداد واكثرهم شهرة وايضا من اذكياء بغداد لان المستوى الدراسي كان عالياً جدا وكذلك الاجور الدراسية،هذه المرأة الحديدية جعلت من المدرسة الابتدائية جامعة وليست مدرسة بقوانين عسكرية صارمة ومستوى دراسي عالٍ جدا حيث كانت تعامل الجميع معاملة واحدة ابن الوزير حاله حال ابن ابسط موظف داخل المدرسة له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات ولا استثناء لاي كان مهما حدث،الدوام يبدأ في تمام الساعة الثامنة صباحا ومن يتأخر دقيقة عليه ان يعود الى البيت فورا فلن يقبل منه اي عذر او تبرير ولن تجدي تشفعات الاهل،كانت المسطرة التي تحملها مدام عادل من الخشب طولها 50 سم وياويل الطالب المشاكس عندما يقف امامها كان يتمنى ان تنشق الارض وتبتلعه بدلا من الوقوف امام تلك المرأة الحديدية، كانت الكتب المنهجية تستورد بالطائرة من خارج العراق وكان كتاب اللغة الانجليزية للصف الاول الابتدائي في تلك المدرسة هو نفس كتاب طلبة الصف الخامس الابتدائي في المدارس الحكومية ولكم ان تتخيلوا الفارق في المستوى الدراسي بين طلاب مدرسة مدام عادل وطلاب المدراس الحكومية
كانت مدام عادل تعاقب الطلاب المتراجعين دراسيا والكسالى بدروس اضافية للتقوية بعد الدوام وتمنع الاهل من اصطحاب ابنهم المشاكس او الكسول او المقصر بعد انتهاء الدوام الى البيت الا بعد ان تحجزه لثلاث ساعات يؤدي خلالها مختلف انواع الفرائض والواجبات الاضافية اجباريا بعد الدوام،كانت تشرف بنفسها على نوعية وكمية ونظافة الطعام الذي يقدم في مطعم المدرسة لجميع الطلاب، وكان هناك عاملان لتقديم الطعام واحد اسمه بطرس والاخر اسمه خوشابا،بطرس كان عندما يقدم الفاصوليا اليابسة للطلاب يسكبها سكباً بكميات هائلة فوق صحن الرز ولايجلبها بصحن منفرد مما يجعل خليط الرز والفاصوليا كأنه شوربة ومنذ ذلك اليوم صارت عندي عقدة من الفاصوليا اليابسة ولم اذقها لغاية اليوم!!.
في تلك المدرسة كانت الدروس اللامنهجية مثل الرياضة والفن والموسيقى تحظى بنفس الاهمية لدى الادارة والمعلمين وكانت هناك حفلة سنوية للطلاب تقام على حدائق المدرسة ومسرحها الصيفي يقدم من خلاله الطلاب فعالياتهم ومواهبهم الفنية والشعرية والمسرحية والموسيقية امام الاهالي والشخصيات البارزة التي كانت تحضر ذلك الحفل السنوي بصورة دورية. كانت مدام عادل مربية محنكة بشخصية دكتاتور صارم ولكن عادل كانت تعامل ابنتها التي تعمل ادارية بالمدرسة بنفس الصرامة التي تعامل بها المعلمات،كنا نكرهها احيانا ولكننا اليوم نترحم على ايامها والساعات والسنوات التي قضيناها معها واليوم فقط عرفنا قيمة افضالها على جميع من تخرج من تحت يديها،هذه المرأة الحديدية خرجت عظماء وعلماء ونوابغ 99 % ممن تخرج في مدرستها احتلوا ارفع وارقى الوظائف والمناصب الادارية والعلمية في كل انحاء العالم، فتجد كل من تخرج من مدرسة عادل الاهلية بارزا وناجحا ومتميزا في مجال عمله اليوم لانه يحمل اساسا علميا راسخا قويا منهجيا دوليا فتح له اصعب الطرق والابواب ليدخلها وهو مسلح بعقلية علمية تجعله يخترق كل الصعوبات وبسهولة تامة،مدام عادل كانت مثلاً ورائداً من رواد التعليم في العراق منذ ذلك الزمان المشرق الزاهي والبهي والذي لن يعود ابدا.