طفولة ناتالي ساروت

Tuesday 28th of August 2018 06:58:20 PM ,

منارات ,

سعد محمد رحيم
روائي وكاتب راحل
في كتاب (طفولة) لناتالي ساروت، النص العصي على التصنيف، تثبّت ناتالي ساروت ذاتها كآخر لتتمكن من إزالة الهالة الكثيفة عنها، وإيداعها منطقة أخرى، أكثر وضوحاً، أمام المرآة، وفي النور.. النور الشاحب الحزين في غسق الحياة.. أن تضع الحكاية في ذلك المستوى الأفقي المضلل، لتمتد الظلال طويلة خدّاعة تنبئ عن وقوفك الحقيقي هناك، ولكن من غير رهانات مؤكدة.

تجري المكاشفة بشيء من التحايل، عبر حوار طويل، عنيد وصعب.. أن أنشطر شطرين مقدِّماً نفسي من خلالهما، عبر صورتين متناقضتين ومتكاملتين؛ صورَتي ندّين، لن أكون معهما هذا، ولن أكون ذاك، بل كلاهما معاً، في الوقت نفسه.. إن الأمر ينطوي على محاولة تسوية أولاً، ومحاولة للتطهير ثانياً، ومحاولة لنيل التبرئة من القدر ثالثاً. ويقيناً ثمة رابعاً وعاشراً في النهاية، من يدري!. وفي النهاية، كذلك، لا أحد، لا شيء، سيخرج بعد كتابة مثل هذه السيرة سالماً من التجربة، لا الذات، ولا الآخرون، ولا المكان، ولا الزمن، ولا العقل، ولا الروح.. لا أحد سينال صك البراءة، لا شيء سيقدر على استعادة ما كان عليه.. أما المؤلفة فلن يُنظر إليها مثلما كان قراؤها يفعلون من قبل.. لن تعود نفسها، لا في نظرها هي، ولا في نظر الآخرين، ولا في الحقيقة.. فمع لحظة الفراغ من الكتابة يكون شيء ما قد تغير، وإلى الأبد.
في صفحة الاستهلال لا تبدو الذات متطلِّبة جداً.. المقصد الظاهر هو استرجاع صور من الطفولة، إحياء الذكريات، ليس إلّا.
ـ إذن ستفعلين هذا حقاً؟ (استرجاع طفولتكِ).. كم تضايقكِ هذه الكلمات، إنكِ لا تحبينها، لكن اعترفي أنها الكلمات الوحيدة المناسبة، تريدين (استرجاع ذكرياتكِ).. لا مجال للمراوغة، هو ذا بالضبط.
ـ نعم، هذا ليس بيدي، إنه يجذبني ولا أدري لماذا..
ـ قد يكون.. ألن يكون.. إننا أحياناً لا ندرك.. قد يكون السبب أن قواك يعتريها الضعف..
ـ لا، لا أعتقد.. على الأقل لا أشعر بهذا....
ـ ومع ذلك فإن ما تريدين عمله... (استرجاع ذكرياتك).. أن يكون...
ـ أوه! أرجوكِ...".
لكن الأمر ليس بهذه البساطة أيضاً.. إن الذات تستدرج عينها إلى الأرض المجهولة.. تورِّط نفسها بمحاكمة لا قبل لها بها.. إن الأشياء المربكة الخفية التي تتكشف بطريقة استفزازية تعيد صياغة الشخصية المنشطرة، وتوحِّدها في مستوى عالٍ من التخيل الإبداعي. فالحقائق التي تترى تضع الشخصية أمام تاريخها السري، أمام ما توارى وغاب.
يبدأ عشق الكلمة المكتوبة في طفولتها كحدس مبهم.. كرغبة مبكرة دافئة، لم تتحول بعدُ إلى جمرة، إلى دافع حارق.. اكتشاف سحر الكلمة المكتوبة يعادل مغامرة ولوج غابة عذراء، بكل ما في المغامرات الأصيلة من شغف وقلق وترقّب وتردد وفضول.
“أنا بحجرتي، أمام منضدة صغيرة في مواجهة النافذة، أكتب كلمات بالريشة المبللة بالحبر الأحمر.. أدرك أنها ليست شبيهة بالكلمات الحقيقية في الكتب.. تبدو مشوهة، كما لو كان بها عاهة إلى حد ما.. ها هي كلمة مترددة، غير واثقة، عليّ العثور على مكانها... ربما هنا... لا، هناك.. لكنني أتساءل... قد أكون مخطئة.. لا يبدو أنها تنسجم جيداً مع الأخرى، تلك الكلمات التي تعيش في مكان آخر.. ذهبت بعيداً للبحث عنها وجلبها هنا، لكنني لست أدري ما هو حسن بالنسبة لها، لا أعرف ما هي عاداتها.."ص65.
ثمة خطب ما في علاقة الطفلة بأمها.. أحد أسباب سوء الفهم هو اللغة.. اللغة الاعتيادية البسيطة المتداولة التي تجعل العقل في حالة من الالتباس.. العقل المنقِّب الذي يضع، حتى ما كان متشحاً بهالة تحريم، موضع استجواب طويل وصارم.. وتبقى الطفلة، في تلك السن المبكرة، متأرجحة بين ضفتي الصراحة والشجاعة.. أن تكون تحب أمها فيجب أن تراها جميلة، غير أنها، أي الأم، ليست كذلك.."هذا الحب الذي يكنّه لها، هو الذي يدفعه إلى اعتبارها في غاية الجمال.. أجمل واحدة.. وأنا، من الواضح، أنني لا أحبها طالما أجد أن عروسة معروضة عند الكوافير أجمل منها"ص73.
ساروت في (طفولة) لا تنشئ سيرة صافية، مشذّبة، شفافة. فليس لمثلها أن يخبرنا على طريقة الحكواتية.. إنها من تلك الجماعة التي تضيق ذرعاً بالحبكة، بالوضوح التام، بالزمن الخيطي للسرد، بالمكان المعلوم جداً، بالشخصيات الموصوفة بدقة فوتوغرافية.. ساروت لا ترغب بإقناعنا.. ما ترمي إليه هو أن تتركنا حيارى متشككين.
وهي كمن يلعب الشطرنج مع نفسه.. ذكاؤها الحاد المنفصم بوعي صارم يجعل من اللعبة على درجة عالية من الإتقان والحدّة والقسوة.. وأخيراً ليس هناك من يحسم مسالة الربح والخسارة، ربما باستثناء القارئ.. ففي مرحلة حاسمة من المواجهة تتوقف عن الاستمرار.
ـ"اطمئني، انتهيت، لن أقودك إلى أبعد من ذلك.
ـ لماذا فجأة الآن، بينما لم تخشي الوصول إلى هنا؟
ـ لست أعلم بالضبط.. لم تعد لديّ رغبة في ذلك... أريد الذهاب إلى مكان آخر...
ربما لأنه يبدو لي أن الطفولة تنتهي هنا عندما أنظر إلى ما هو معروض أمامي حالياً، أرى مساحة مزدوجة للغاية، حسنة الإضاءة".

سبق لهذه المادة ان نشرت في صحيفة المدى