من يخاف ناتالي ساروت؟!

Tuesday 28th of August 2018 06:59:15 PM ,

منارات ,

علي حسين
قالت عنها الصحافة إنها أمراة عنيدة تريد تشكيل العالم وفق ما تتخيله، لكن حياة ناتالي ساروت لا تحتاج الى دعم الخيال، فالطفلة"ناتاشا"التي ولدت بداية القرن الماضي -18 حزيران عام 1900 - في مدينة تبعد عن موسكو ثلاثمئة كيلو متر، أدمنت الخوف من الموت وهي صغيرة بعد أن شاهدت شقيقها يغرق في النهر، لكن الموت شاكسها ليتركها تعيش قرابة القرن – توفيت في التاسع عشر من تشرين الأول عام 1999 - حاولت أن تعيش عالمها الخاص،

تُدمن النظر الى وجوه الآخرين، وتتخذ من المقهى مكاناً مفضّلاً للكتابة، والتلصص على ما يجري حولها، لتحوّل هذا التلصص إلى قصص وروايات، لا تهدف من ورائها تسلية القارئ ومنحه فسحة من الراحة والهدوء، بل تُصر على أن تضعه في عالم مزروع بأشواك اللغة، والجمل القصيرة المتقطعة، والخيال الذي سيصبح الوسيلة الوحيدة للتواصل بين البشر:"الإنسان يتخيل حياته، ويتخيل العالم الذي يعيش فيه. يخترع الحب لأنَّ الحب لاوجود له إلّا في خياله، ومع هذا فإنَّ الخيال ليس نشاطاً معزولاً، إنه وسيلة للاتصال".
عاشت ناتالي ساروت طفولة موزّعة، بين أمها التي انتقلت الى جنيف بعد أن انفصلت عن والد ساروت، وبين أبيها الذي عاش في روسيا يكتب مقالات عن الثورة وضرورة تغيير النظام في روسيا القيصرية. في الثامنة من عمرها تستقر بشكل نهائي في باريس، فالاب وجد نفسه مطارداً بسبب كتاباته، فاضطر الى بيع المصنع والانتقال الى فرنسا مع أحلام بافتتاح مصنع جديد.
اعتادت أن تستيقظ في الرابعة فجراً لتقرأ كل يوم في روايات دستويفيسكي الذي عشقته حد الجنون، بعدها تذهب الى أحد المقاهي القريبة وتبدأ الكتابة. وجدها الفرنسيون امرأة غربية الطباع، لكنهم انتبهوا فيما بعد إلى أنها آخر نجم أدبي كبير في فرنسا..
عام 1932 قدمت مجموعتها الأولى"انفعالات"– ترجمها الى العربية فتحي العشري – الى دار غاليمار التي رفضتها، وكان رأي الخبير أن هذه القصص تخلو من الحياة، بلا عقدة، الشخصيات لا ملامح واضحة لها، قررت أن تتحمل نفقات النشر، ليصدر كتابها الأول التنقل بين المطابع ودور النشر وبيع منه اربعمئة نسخة فقط، لكن سرعان ما أستعاد الكتاب اهتمام القرّاء والنقاد حين أعيد نشره ثانيةً عام 1957 ليعتبر المؤسس الحقيقي لحركة الرواية الجديدة. نَهشت الوحدة أيامها. في الخامسة عشرة من عمرها، غيّر توماس مان حياتها بعد أن قرأت روايته طونيو كرو، درست الأدب الألماني في الجامعة.. ترفض وصف كتاباتها بالأدب النسوي:"لا أرى أن للرجال ميزة محددة"، تأخذها العزلة بعيداً فتتوقف عن الكتابة عشرة أعوام لتعود عام 1949 وهذه المرة رواية بعنوان"صورة مجهول"، رفض معظم الناشرين طبعها، ذهبت في الصباح الباكر باتجاه مقهى"لي دو ماغو"أخبروها أنَّ سارتر يأتي إلى المكان في العاشرة صباحاً، جلست تنتظره، لمحته من بعيد يسير ببطء برفقة سيمون دي بوفوار، ما إن جلس الى طاولته الصغيرة حتى اقتربت منه ووضعت أمامه مجموعة من الأوراق، مع قصاصة صغيرة كتبت فيها"إن لم تعجبك الرواية أرمِ الأوراق في أقرب سلة مهملات".. بعد أيام تلتقي بسارتر الذي قرر أن يكتب مقدمة للرواية التي صدرت عام 1949، حيث أكد سارتر أن لدى ساروت رغبتين تكمل كل منهما الأخرى: الأولى معارضة الرواية التقليدية بمهاجمتها من الداخل، والثانية اكتشاف الواقع الإنساني بلغة جديدة ووسائل نفسية جديدة، أحسَّ سارتر وهو يقرأ رواية ساروت، أن نوعاً جديداً من الأدب يرمي خلفة بالعقدة والأحداث وطبائع الشخصيات، ويخلق علاقات جديدة بين الذاتية والموضوعية، يختتم سارتر مقالته بعبارة يؤكد فيها، أن رواية ساروت"إحدى السمات الفريدة في عصرنا هذا".. وتقول ساروت، إن رواياتها وقصصها نشأت عبر مجهود دقيق للإحاطة بالواقع، وقد احتاج الأمر منها شكلاً روائياً مختلفاً عن الشكل الذي تبنّاه روائيو القرن التاسع عشر.
اتذكر في العام 1979 تعرفت للمرة الأولى على كتابات ناتالي ساروت، كنت أقلب الكتب في مكتبة التحرير، فعثرت على كتاب صغير بعنوان"انفعالات"، لايوحي الغلاف بأنه رواية أو مجموعة قصصية، وتصورت في البداية أنه كتاب في علم النفس، تصفحت وقرأت في المقدمة التي كتبها المترجم فتحي العشري، إن هذا الكتاب والذي يضم تسعة عشر نصّاً قصصياً يُعد البداية الحقيقية للرواية الجديدة، كنت مهتماً بقراءة دستويفيسكي وبلزاك وستندال وفلوبير وتولستوي ومهوساً بقصص تشيخوف، فما الضير أن أجرب قراءة لون جديد من الأدب.. في"انفعالات"تضع ساروت لنصوصها أرقاماً بدل العناوين، وتمنح الشخصيات ضمائر بدلاً من الأسماء، فهناك"هو وهي وهم وهن"، وجميع الشخصيات تعكس حالة من الكآبة التي تلوح في الأفق، وتقوم هذه الشخصيات أو الضمائر بحركات دقيقة ومعقدة لكي تبتعد عن الآخرين أو تقترب منهم، وأحياناً لكي تلتصق بهم أو تهاجمهم، وهذه العلاقات تتسم باللا شعورية، أو اللا إرادية، ولايعرف أصحابها ما الهدف منها، لكننا نكتشف ونحن نقرأ هذه النصوص القصصية، أن كل ما يجري هو مقصود ومخطط له بمنتهى الدقة، حيث تؤمن ساروت، أن العلاقات بين البشر دائماً علاقات عدوان، أو سيطرة طاغية، أو سحر أو خضوع.. وعندما سُئِلت عن مصدر قصصها في"انفعالات"، قالت إن ما من شيء من حياتها انتقل الى مؤلفاتها:"لكي يكتب الكاتب رواية، يجب أن يتأكد من أن الآخرين يشبهونه".. لاتؤمن ساروت بالشخصية كعنصر أساس في الرواية أو القصة، وشخصياتها محاطة بالغموض، ولا تظهر الشخصية عندها مثلما تظهر في الروايات التقليدية، فهي لا تشير الى طبائع الشخصيات ولا تتابع تطورها.. فالشخصية مجرد عقدة في عالم متشابك، ومهمة الرواية هي حل أكبر عدد ممكن من الخيوط المتشابكة لهذا العالم.
في العام 1956 تصدر ساروت كتابها المهم"عصر الشك"– ترجمة الى العربية فتحي العشري - وفيه تضع تصورها لمفهوم الرواية الجديدة.. وبدا الكتاب منذ صدوره أقرب الى المرجع النقدي والنظري ليس للفن الروائي الذي رسّخته ساروت فقط، وإنّما للرواية الحديثة بشكل عام. ولعلّها عبر النصوص النقدية الأربعة التي ضمّها الكتاب تمكّنت من"تجديد النقد الأدبي"عبر الآراء التي طرحتها وناقشتها في الكتاب أوّلاً ومن دون أيّ ادعاء، ثم عبر الشكل الجديد الذي تبنّاه خطابها النقدي. يبدأ الكتاب بما سمته ساروت مقالة في الرواية تبحث في ماضيها وحاضرها، فهي تؤمن بأن التناقض بين الرواية النفسية ورواية المواقف لا وجود له، فكافكا يكمّل دستويفيسكي ولا يتعارض معه.. ونجدها من هذا المنطلق تحلل بعض الصفحات من دستويفيسكي وتقارنها بصفحات من كافكا، حيث تبيّن لنا كيف يمزق الضغط الداخلي غلاف الشخصية، ويحدث انتقال من الخارج الى الداخل. وفي المقالة الثانية، تشن ساروت هجوماً على الشخصية بالمعنى الذي رسمته رواية القرن التاسع عشر:"هناك حقيقة واقعة لابد من تقديرها: لم يعد الكاتب يؤمن بشخصياته. والقارئ من ناحيته لم يعد قادراً على الإيمان بها".
وتلخص ساروت التغيرات التي طرأت على الرواية في النقاط التالية، أهمية المنلوج الداخلي، فيض من الحياة النفسية. مناطق شعورية واسعة لم تكتشف بعد. سقوط الحواجز التي كانت تفصل بين الشخصيات. اهتمام القارئ بالحالة النفسية للشخصية. وفي المقالة الثالثة، تثير ساروت موضوعة الحوار، حيث ترى أنَّ الأشكال التقليدية للحوار صارت بالية شأنها شأن الأبطال الذين يدور بينهم ذلك الحوار. وفي المقالة الرابعة، تجري ساروت مقارنة بين الواقعيين والشكليين، حيث تؤكد على أن القارئ يجب أن يرى في الرواية:"ذاك الفيض الهائل من الأحاسيس والصور والعواطف والذكريات والنزوات... في حين يندفع فينا باستمرار سيل الكلمات من دون توقف".
في سنواتها الأخيرة، انحازت لوجهة نظر فلوبير عن الرواية وضرورة أن تأتي دائماً بأشكال جديدة ومادة جديدة وإنه:"لاينبغي أن نكتب إلّا إذا أحسسنا بشيء لم يسبق أن أحسَّ به أو عبّر عنه كتّاب آخرون."
ربما يسأل البعض ما الذي ذكّرني بساروت التي لا يتذكرها النقاد الآن، والقارئ العربي ربما يجهل الكثير عن أعمالها، بسبب ندرة ترجمة كتبها.. بالحقيقة كنت في بعض الأحيان أعود لقراءة كتاب"عصر الشك"لأنني اعتبره مصدراً مهماً في النقد الأدبي، لكنني في الأيام الآخيرة، حصلت على ترجمة جديدة لكتاب ساروت"طفولة"أصدرته دار المدى.. وكنت قد قرأت هذا الكتاب منذ سنوات في ترجمة بعنوان"طفولتي"تؤكد ساروت، أنها لم تشأ أن تقدّم في هذا الكتاب سيرة ذاتية، بل أصرت على أن تجعل من تلك الطفلة التي نتعرف عليها في الكتاب صورة أخرى تحمل ملامح:"ناتاشا"الصغيرة التي غادرت وطنها لتعيش في باريس تسعة عقود متواصلة:"حاولت أن أحيي الأشياء التي أتذكّرها في أجمل طريقة. ولكن مع رقابة ذاتية قاسية كي لا أشطح بعيداً عن الواقع".
ونقرأ في الصفحات الأولى حيرة الروائية :
- إذن ستفعلين هذا حقاً؟"استرجاع طفولتكِ".. كم تضايقكِ هذه الكلمات، إنكِ لا تحبينها، لكن اعترفي إنها الكلمات الوحيدة المناسبة، تريدين"استرجاع ذكرياتكِ".. لا مجال للمراوغة، هو ذا بالضبط.
ـ نعم، هذا ليس بيدي، إنه يجذبني ولا أدري لماذا؟
في"طفولة"تجمع ساروت ذكريات سنواتها الإحدى عشرة الأولى.. لكنها وهي تروي طفولتها لم تتخل عن أسلوبها الروائي، حيث أصرت على أن تعالج حكايتها من خلال مسافة ما بينها وبين الشخصية، تفترضها عادة الكتابة الروائية. فلم تدمج بينها وبين الطفلة التي كانتها ذات يوم، حتى وإن حملت بعض ملامحها.
إضافة الى الرواية والقصة القصيرة والنقد، كتبت ساروت عدداً من الأعمال المسرحية التي جسّدت فيها أسلوبها الخاص، فهي مسرحيات تصوّر العلاقات بين الأشخاص والعلاقات في المجتمع، والطرق التي تؤثر بها الكائنات الإنسانية على بعضها البعض، والنزاعات والخصومات التي نواجهها جميعاً.
قالت إن كتبها مثل أولادها، مع أنها ليست كتباً سعيدة عكس سعادة بناتها:"الشفاء ممكن من العزلة مئة في المئة كما حدث معي وأنا أعيد رسم حياة الناس الذين تلصّصت عليهم في المقهى."
كتبت سوزان سونتاج في رثاء ناتالي ساروت:"كانت تتخيّل وتنبض وتختلج وترتجف وترتعش تحت تأثير دقائق الحياة اليومية".