الفتى المشاغب يهرب مجدداً

Tuesday 18th of September 2018 07:01:06 PM ,

منارات ,

علي العزيز
أغمض جورج جرداق عام 2014 عينه إلى الأبد. لم يكن لشيء أن يقضّ مضاجع أهل الشهرة كما فعلت تلك العين الثاقبة. عين خارقة للمألوف أمكنها أن تلتقط أدق التفاصيل وتكشف كل مكامن التورية والغموض، حتى بدا أن من الصعوبة المحاذية للمستحيل أن تنطلي خدعة ما على صاحب القلم الساخر، الساحر، مهما برع المتحاذقون.

رحيل الناس قدر، لكن غياب أمثال جورج جرداق يؤشّر إلى اندثار مرحلة. منذ اصطدامه الأول بقوانين الحياة، بدا الفتى الجنوبي القادم من مرجعيون (محافظة النبطية) عصياً على الانضواء.

ومنذ البدايات الأولى، كانت قضيته كيف يهرب من المدرسة نحو أحد مروج بلدته متأبطاً «مجمع البحرين» لليازجي، وديوان المتنبي. لاحقاً عندما ضبطه أهله متلبساً بجرم الفرار من سجن الطفولة، انتصر له شقيقه الأكبر فؤاد، وكان علّامة لغوية متميّزة، متيحاً له منفذاً استثنائياً: دعوه يفعل، إنه بذلك يتعلّم أكثر مما يفعل في المدرسة. أهداه حينها نسخة من كتاب «نهج البلاغة» لعلي بن أبي طالب. لم يدر أنه بذلك يمنحه الفرصة التي كان يحتاج إليها ليؤلّف موسوعة حول شخصية تاريخية مثيرة للاهتمام وللجدل أيضاً. هكذا بدأت حكاية سلسلة تضمّنت خمسة مجلّدات، ختمها بملحق سادس وهي" علي وحقوق الإنسان"، و"علي والثورة الفرنسية"، و"علي وسقراط"، و"علي وعصره"، و"علي والقومية العربية".
أما الملحق، فجاء تحت عنوان «روائع النهج». صدرت من الموسوعة أربع طبعات عن ثلاث دور مختلفة خلال سنة واحدة. أما عدد نسخها فتخطى الخمسة ملايين. في تعليق له، قال جرداق: «لم أجن قرشاً واحداً من هذه المطبوعات التي ترجمت إلى الفارسية والأوردية، لغة مسلمي القارة الهندية، والإسبانية والفرنسية. وعندما أحتاج إلى مجموعة عربية أو أجنبية أشتريها على حسابي، فيما لم تكلّف دار واحدة نفسها أن ترسل لي نسخة هديّة من باب رفع العتب». في الثامنة عشرة من عمره، وضع كتابه الأول «فاغنر والمرأة" الذي حاز قبول مرجعيات كبيرة من طراز الشيخ عبد الله العلايلي وعميد الأدب العربي طه حسين، الذي قرّر إدراجه على لائحة المقررات الجامعية. كان حينها يشغل منصب وزير المعارف في مصر. كذلك، حقّقت روايته التاريخية «صلاح الدين وريكاردوس قلب الأسد» رواجاً استثنائياً. كان بوسع الكاتب الموضوعي الذي شهدت أعماله قبولاً منقطع النظير، أن يتحصّن ببرجه العاجي، لكن حسّه الساخر كان طاغياً وهذا ما دفعه إلى الاستجابة لنزعة التهكّم التي طبعت شخصيته الإبداعية، فأصدر مؤلّفات أقلّ تأدباً، وإن لم تكن دون سابقتها أدباً: «صبايا ومرايا» و"وجوه من كرتون" و"حديث الحمار"، إضافة إلى مسرحيات عدة ومسلسل تلفزيوني.
أيضاً لم يكن جورج جرداق بعيداً عن الشعر. كتب العديد من القصائد، وكان لبراعته الشعرية أن دفعت قمتي الغناء واللحن في حينه: أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب أن يصرّا على أغنية من إبداعه، هكذا أبصرت أغنية «هذه ليلتي" النور ذات أمسية صيفية بالغة الروعة في فندق «أمباسادور" المطلّ على وادي «لامارتين» في جبل لبنان. حصل ذلك عام 1967، وبعد عام من تلك الأمسية غنّت كوكب الشرق «هذه ليلتي" بعدما وضع ألحانها الموسيقار محمد عبد الوهاب.
الصحافة أيضاً كان لها نصيب من عبقرية الفتى الجنوبي. انتشرت مقالته المترعة بالسخرية على مساحات واسعة من الصحف اللبنانية والعربية. لم يكن متطلباً على الصعيد المادي. أما شرطه الذي لم يكن مستعدّاً للنقاش بشأنه، فهو أن تنشر مقالته من دون أي تعديل.
يروي في إحدى مقابلاته الصحافية أنه ذيّل بعض مقالاته بأسماء بعض المتطفلين على المهنة، بين هؤلاء من صار له شأن في عالم الكلمة المكتوبة، ومنهم من ابتسمت له الدنيا بأكثر مما كان يتوقع، أو يستحق. حتى إن غير واحد ممن بنى حضوره المهني الزائف على كتابات جورج جرداق وسواه، جاءه يوماً يعرض عليه العمل في مؤسسات صارت ملكه. كان جرداق يروي تلك الوقائع وعلى شفتيه تلك الابتسامة المختزلة لمعانٍ شتى.
على امتداد ستة أشهر، تبادل جرداق مقالات الهجاء مع الأخوين منصور وعاصي الرحباني على صفحات مجلة «الشبكة». بدأت الحادثة بمصادفة، لكنها كانت بالغة الروعة، وقد تابعها القراء بشغف غير مألوف. وعندما اتخذ الطرفان قراراً بوقف السجال الساخر، اعترض صاحب «دار الصياد" سعيد فريحة، مشيراً إلى أن القرار يمثل كارثة له، فقد كان يطبع الآلاف من الأعداد الإضافية اعتماداً على تلك الأهاجي الممتعة. بعد أكثر من ثمانية عقود على ولادته، ها هو الفتى المشاغب يهرب مجدداً من مدرسة الحياة وقد ضاقت به جدرانها الموصدة. يذهب بعيداً نحو مرج العيون المحدقة عميقاً، بعدما أحدث الكثير من الكوى في تلك الجدران الصلبة، وبعدما رسم على ملامحها الشاحبة الكثير من معالم روحه المتوثبة.
عن الاخبار اللبنانية