مقدمة شارع سنكلير لويس

Tuesday 25th of September 2018 07:09:12 PM ,

منارات ,

"الشارع الرئيسي"قصة عالمية من تأليف سنكلير لويس الكاتب المبدع والناقد الاجتماعي الفذ
أمينة السعيد
سنكلير لويس (1885 – 1951) من أسطع نجوم الولايات المتحدة في عالم القصة: ولد في اليوم السابع من شهر فبراير/ شباط عام 1885 بمدينة سوكسنتر التابعة لولاية منيسونا، وقد حظي بجائزة نوبل عام 1935 تقديراً لجهاده عن طريق القصة في مقاومة الأوضاع الاجتماعية المختلفة، ثم توفي في الحادية والستين من عمره بإحدى المصحات الإيطالية، حيث كان يعالج من مرض خطير ألم به خلال الفترة الأخيرة من حياته..

وعملاً بوصيته أحرق جثمانه ونقل رماده إلى مسقط رأسه كي يستقر نهائياً في قلب الأرض التي بلغ من شدة تعلقه بها أن اختارها مسرحاً للجانب الأكبر من مؤلفاته.
وسنكلير لويس كاتب أمريكي أصيل: ولد وترعرع في بيئة محلية تحمل خصائص أهل مناطق القمح المنتشرين على طول الولايات الوسطى، وعلى أثر تخرجه في جامعة بيل، اختار أن يشتغل بالصحافة، وقضى أعواماً يعمل مندوباً لدى كبريات الصحف والمجلات.
وكان لهذه الفترة من كفاحه المهني أثرها في صقل مواهبه القصصية وتغذية تجاربه بعناصر الواقعية المستمدة من صميم أحوال البيئة.. ولعله يدين بكثير من تفوقه في وصف حياة المجتمع الأمريكي خلال فترة ما بين الحربين العالمية الأولى والعالمية الثانية. لما تلقاه من خبرة إنسانية وفيرة إبان اتصالاته الصحفية المباشرة بالقطاعات الاجتماعية المختلفة. واحتكاكه الدائم عن طريق هذه الاتصالات بالاتجاهات الفكرية المميزة لروح هذه المرحلة من حياة بلاده.
ولقد بدأ سنكلير لويس إنتاجه القصصي وهو في التاسعة والعشرين من عمره.
وفي خلال السنوات العشرين التالية تأتي له أن يقدم سلسلة من القصص أحدث ظهورها دوياً هائلاً في جميع الأوساط الأمريكية والأوروبية، وأقبل الناس في شتى بلاد الغرب على قراءتها بغاية الحماسة لما وجدوه فيها من أصدق التعبير عن الثورة التي تعتمل في نفوسهم.
وتمثل أعمال سنكلير لويس نقطة التحول العظيم في كتابة القصة الاجتماعية.. فقد ظل الاتجاه القصصي حتى نهاية القرن التاسع عشر ينصب على وصف البيئة عن طريق تجميع أحداث فردية تحقق للقارئ عناصر التشويق، كما تربط مصائر الناس بتصرفاتهم، وتلقى من الأضواء على تحركات أجسادهم مالا تلقيه على انفعالات نفوسهم.
ولكن هذا الاتجاه لم يلبث أن أخذ في التحول.. فمع بداية القرن العشرين ظهرت مدرسة جديدة ترمي إلى تركيز القصة الاجتماعية في أحوال طبقة معينة، وتوضح الصورة العامة لمشكلات هذه الطبقة ومتاعبها بواسطة عدد من الشخصيات العادية التي تربطها أحداث صغيرة متتالية غير مقيدة بالمعايير الأخلاقية التقليدية.. وكان سنكلير لويس من أساتذة هذه المدرسة الجديدة.
ولقد أحس التعبير في قصصه عن الاحتياجات الجديدة التي أيقظها في نفوس الناس تطور الفكر بعد الحرب العالمية الأولى. ومع أنه لم يكن من أمهر الكتاب في فن الصياغة، ولا أقدرهم على تصوير أفكاره بسهولة وسلاسة، فإنه قد تفوق على الكثيرين من كتاب عصره في عمق فهمه لحياة المواطن العادي. وشدة عطفه على متاعبه وأخطائه، وصراحته في الجهر باستنكاره لفكرة استبداد طبقة بطبقة.
وبفضل إيمان سنكلير لويس بهذا الاتجاه الاجتماعي الجديد، ومداومته على الدعوة له، استطاع أن يقف بقلمه وفكره في مكان وسط بين اليمين المتطرف واليسار المتطرف، وأن يحول القصة الاجتماعية من مجرد أداة ترفيهية يتسلى بها المترفون، إلى عمل ثقافي عالمي يجد الكادحون فيه أبلغ التعبير عن أنفسهم.
ولقد تألق سنكلير لويس في وصفه للقرية الحائرة بين الريف والحضر، وفي تصويره للمدينة العامرة بالقبح والجمال، وفي قسوته على النظم الاجتماعية الظالمة.. كما حظي بتأييد الماركسيين لنظرياته الاقتصادية التي أبرزها في حملاته العنيفة على استغلال الرأسمالية، وفي دعواته المتكررة إلى ضرورة إنصاف الطبقة العاملة، واستنكاره الجرئ لسيطرة الكنيسة على حياة الناس..
ويبدأ إنتاج سنكلير لويس بؤلمفين ناجحين، هما :"Trial of the Hawk","Our Mr. Wrenn"
ورغم ما توافر في هاتين القصتين من بشائر العبقرية والنبوغ، غير أن لواء الشهرة لم يعقد له إلا بظهور"الشارع الرئيسي". فقد جاءت هذه القصة مع بداية الوعي القومي بعد الحرب العالمية الأولى، وتضمنت وصفاً بارعاً لضيق أفق البورجوازيين من اهل المدن والبلدان والقرى، وكيف كانت سطحية تفكيرهم وتفاهة ثقافتهم وضآلة مثلهم، تدفعهم إلى احتقار الأوضاع المحيطة بهم مع عجزهم التام عن إقامة أوضاع أخرى أفضل منها..
فقرية جوفر بريري التي اختارها سنكلير لويس مسرحاً لقصة"الشارع الرئيسي"لم تكن في الواقع سوى الصورة الحيّة لجميع البلدان المنتشرة في منطقة الولايات الوسطى... فهي القرية الحائرة بين الريف والحضر... التي جردها التطور من خصائص الحقل دون أن يمنحها خصائص المدينة، ففقدت عبير الزرع قبل أن تستنشق دخان المصنع، وخضعت لتقاليد زائفة"يختنق فيها العالم الأصيل وينتعش المدعي ودجّال السياسة".. شأنها في ذلك شأن المدينة التي تماثلها في العيوب والفضائل، ولا تختلف عنها إلا من حيث المساحة وعدد السكان.. ففي الاثنتين يتوافر التعصب والتزهت والاستغلال والتحكم، وتسود سيطرة القوى على الضعيف، وينفسح المجال لانتصار السطحية والتفاهة.
كذلك الأمر في شخصيات القصة :
فكارول كنيكوت هي الصورة الحية لأبناء جيلها الضعيف المهزوز.. فتاة من أهل الطبقة الوسطى، جميلة رشيقة جذابة، ولكنها حائرة الذهن لا تعرف ما تريد، وقد تعرف فتعوزها القدرة على تحقيقه.. تدخل الكلية كي تسلح نفسها بالمقومات الضرورية في بناء شخصية المرأة الحديثة المتحررة، ولكن مرحلة الدراسة تمضي بها قبل أن تتمكن من إقامة كيان مميز لها.. فتظل تنجح في امتحاناتها إنما بلا تفوق.. يحبها جميع زملائها من غير أن يحسوا بوجودها.. مع كل يوم مشرق جديد، يطرأ لذهنها مشروع رائع جديد، ولكن حماستها لا تلبث أن تفتر، فتبدأ في البحث من جديد.
وتخرج كارول كنيكوت إلى الحياة العملية بذات السطحية والقلق.. فتراها مرة تريد أن تشتغل بالتدريس لتسهم في خلق جيل جديد، ثم لا تلبث أن نراها تؤثر التمريض خدمة للإنسانية، وأخيراً يستقر بها المقام في إحدى المكتبات الغنية بالمؤلفات والفقيرة إلى التجارب المفيدة.
وتقابل كارول طبيباً من الريف يمثل بورجوازية القرية بجميع حسناتها ومساوئها، فتقبل الزواج منه. وكلها رغبة في صقل شخصيته والنهوض بحياة قريته إلى المستوى اللائق بأفكارها الجديدة.. ولكنها تصطدم بالواقع الذي يختلف تماماً عن الخيال، فتدفعها وجيعة الفجيعة إلى الثورة على الأوضاع المحيطة بها، ثم ينتهي بها الأمر إلى الاستسلام للهزيمة بعد أن تهرب إلى المدينة، فتجد أنها – مثل جوفر بريري – تقوم على الفراغ والسطحية، وتتمسك بمظاهر لا تخفى وراءها قيماً مذكورة.
ومن خلال شخصية كارول كنيكوت يطالعنا رأي سنكلير لويس في جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى، أو الشباب الذي نشأ على مبادئ طمس التطور معظم معالمها، فحاد بضعفه عن طريق المثل والقوة، وضاع بعلمه القليل في متاهة الأفكار الكبيرة..
وزوجها الدكتور ويل كنيكوت هو الآخر صورة حية لأبناء قطاعه الاجتماعي، ومن خلال وصف سنكلير لويس له تجد انه رجل قوي، ولكن ليس بالقدر الذي يترفع به عن دنيانا المادية... أمهر في جمع المال منه في ممارسة الطب.. صديق للاتجاهات الجديدة ما دامت لا تتعارض مع مصالحه الخاصة.. كبير القلب في حدود الأوضاع المصطلح عليها.. أو هو باختصار الرجل الذي يريد أن يعيش في هدوء ويكسب بقدر ما يريد، ولا يأس من أن يتغاضى في سعيه إلى بلوغ عرضه عن بعض تقاليد العلم وكرامة المهنة.
وفي قصة"الشارع الرئيسي"يتكشف لنا الخط الاجتماعي الذي اختاره سنكلير لويس محوراً لكتاباته.. ولكن هذا الخط يصل إلى ذروة الإبداع في قصته التالية"Babbit"وهي القصة التي يصف فيها بغاية الجرأة قناعة الأمريكي ورضاه عن فقد شخصيته وضيعة مثله.. وقد أصابت هذه القصة من الشهرة ما لم يسبق له مثيل، وكان لها من الأثر في تحريك الضمير العالمي ما لم يحققه كتاب آخر خلال السنوات العشر التي صاحبت ظهور"بابيت".
ومضى سنكلير لويس في طريق المجد بقصة"Arrowsmith"وهي دراسة كاريكاتورية لمهنة الطب وما أصاب المثل العلمية فيها من تدخور واختلال... وتلاها بقصة"Elmer Gantry"التي ضمنها حملة عنيفة على قادة الكنيسة البروتستنتية، ونقداً مراً لجشعهم وتدخلهم في شؤون السياسة على حساب رسالتهم الروحية الأصيلة.
وكان آخر ما كتبه في سلسلة مؤلفاته"World so wide" التي يصف فيها حياة الأمريكيين في إيطاليا، ثم لم يلبث أن أقعده المرض إلى حين وفاته..
وسنكلير لويس كاتب كاريكاتوري، يهدف إلى مهاجمة عيوب البورجوازية وشرورها المميزة، وأسلوبه يتسم بالقوة، ولكنه يفتقر إلى الجمال والسلاسة، وقد تفوق على غيره من كتاب عصره بدقة ملاحظته ومتانة ديالوجه وإخلاصه في التعبير عن نظرياته الاجتماعية الجريئة.

مقدمة الترجمة العربية لرواية الشارع الرئيسي
الصادرة عن دار المدى