مسرح ناظم حكمت

Tuesday 9th of October 2018 08:01:05 PM ,

منارات ,

بشار عليوي
لطالما تم التعرف على ناظم حكمت (1902ـ 1963م) بوصفهِ”شاعراً”تُركياً , لا بل هو من أبرز مُتصدري المشهد الشعري التُركي. وأصبح"حكمت"رمزاً لمُجمل أنساق الثقافة التُركية الحديثة. فكثُـرت الدراسات التي انصبت على إبراز هذا الجانب دون غيرهِ. هُنا يأتي الدور المُلتحف بالضرورة التأريخية للباحث المُدجج بعُدة معرفية وثقافية رصينة يدفعهُ شغفهُ بالمعرفة لا غير ,

في تلمس"المسكوت عنهُ"في إبداع ناظم حكمت , وسبر أغوارهِ , والتعرف على ماهيتهِ. لكن أي باحث نقصد؟وأي ناقد يُمكن لهُ أن يتعرض للظاهرة المسرحية في الدول المُجاورة لنا؟. رُغم أن هذهِ المنطقة (وأقصد المسرح الأقليمي) هي أرض بكر , لم يتم الحرثُ فيها بعد من قبل باحثينا ونُقادنا المسرحيين.

وتساوقاً مع هذا المدخل , يأتي كتاب الباحث والكاتب المسرحي"عامر صباح المرزوك"الموسوم(مسرح ناظم حكمت) والصادر عن أعرق دورالنشر العربية (الهيئة المصرية العامة للكتاب) في القاهرة , ليكون إطلالة مُتقدمة على المسرح التركي المُجاور لمسرحنا العراقي على الأقل جغرافياً. تعنون الفصل الاول بـ(لمحة تاريخية عن المسرح التركي) وتضمن مجموعة من اعلام المسرح التركي أما الفصل الثاني فكان عن حياة ناظم حكمت وتضمن علاقاته الثقافية فيما عُنيَ الفصل الثالث بمرجعيات ناظم حكمت المعرفية وتضمنت المرجعيات الفنية والمرجعيات الفكرية والفصل الرابع تحليل نماذج من مسرحيات ناظم حكمت وتضمن خمس مسرحيات هي الجمجمة ورجل غريب الاطوار ومهما يكن الثمن وحكاية حب او فرهاد وشيرين وسيف ديمقليس , والكتاب يقع في ١٩٦ من القطع المتوسط , إذ تتجلى أهميتهِ بوصفه منجزاً معرفياً يفيد دارسي الفن المسرحي ونقاده، فضلاً عن كونه , يدشن مُنطقة مُعتمة في النقد المسرحي , إضافةً لاشتماله على مُجمل أنساق تجربة المسرح التركي , المُتوجة بنصوص"ناظم حكمت"التي وجدها الكتاب متنوعة لناحية الأفكار والموضوعات التي تناولها"حكمت"في مسرحياته والتي إستمدها من المجتمع ونقد المجتمع البرجوازي وتجسيد هموم الإنسان الذي يدافع عنه ويشاركه همومه , كذلك فإن هذا الكتاب هو الأول من نوعه في تأريخ المسرح العراقي وهُنا تبرز أهميتهِ بشكل واضح.
لقد كتبَ"حكمت19 مسرحية , تم التعرض من خلال هذا الكتاب, لخمس مسرحيات منها، هي (الجمجمة، المنشورة عام 1932 / رجل غريب الأطوار , المنشورة عام 1954 / مهما يكن الثمن، المنشورة عام 1956 / حكاية حب أو فرهاد وشيرين، المنشورة عام 1965 / سيف ديمقليس، المنشورة عام 1971) , وجد الباحث"المرزوك", أن ناظم حكمت يُعد واحداً من بين أهم المسرحيين الأتراك الذين أبدعوا في مجال المسرح. فقد اتخذ من المسرح إسلوباً لمواجهة الظلم والإستبداد، وأصبحت مواقفه الجريئة والشجاعة مثالاً يحتذى به من قبل الآخرين السائرين على الجادة نفسها. فقد تعددت المسرحيات واتجاهاتها التي كتبها ناظم حكمت في غضون سنوات عاشها متنقلاً في المنافي والسجون، وهذه التعددية تبرهن على روحه غير المنكسرة. هذه الروح التواقة إلى كل منفذٍ يجد فيه متنفساً يعبر عن هموم الإنسان في زمن النحس والكدر والبغض.
تأمّل ناظم ـ مبكراً ـ (بحسب المرزوك) التراث الشعبي التركي وقرأه قراءةً ناقدةً متفحصة، ووجد فيه صوراً عوّل عليها وسعى إلى تضمينها في قسم من أعماله المسرحية، وفي وقت لاحقٍ من ذلك تحوّل بفكره صوب الايديولوجية اليسارية ووجد فيها متنفساً لمزاجه الذي اعتل من الفكر السلفي السائد في تركيا، لذلك تبنى هذه الايديولوجية وصوّر العديد من مسرحياته وهي ترتدي زياً يسارياً. حيثُ توصل المرزوك , الى أن هناك مرجعيات معرفية عديدة أثرت وأغنت تجربة ناظم المسرحية، وهذه المرجعيات توزعت بين سياسية وإجتماعية وفكرية وإقتصادية أو حتى فنية، الأمر الذي جعله يحتفي بكل هذه المرجعيات ويعكسها في متن مدوناته المسرحية. حاول كتاب"المرزوك عامر"تسليط الضوء على المسرح التركي وعلى علمٍ من أعلامه إنماز منجزه المسرحي بالثراء والتنوع وتعدد المصادر التي أخذ عنها، حتى أن مرجعياته المعرفية تعددت وهذا ما بدا واضحاً في موضوعات مسرحياته. كما أن الكتاب يعد جهداً معرفياً يفيد طلبة كليات الفنون الجميلة ومعاهدها في العالم العربي وللباحثين والدارسين والمهتمين في مجال النقد والأدب المسرحي، بوصفه منجزاً يسهم في تسليط الضوء على الثقافة المسرحية عامة، والثقافة المسرحية التركية خاصة تلك التي تغافلها الكثيرون من كتاّب ونقاد ومؤرخي تاريخ المسرح. حيثُ يؤكد الناقد (م. نيقوليتشي) أن عمر المسرح التركي يمتد إلى أربعة آلاف سنة، ويضيف أن تحت يديه نصوصاً مكتوبة مثّلها الترك منذ التاريخ الموغل في القدم، ويعتقد أن هذه المسرحيات كانت تقدم عقب كل معركة تنتهي بالنصر، ودليله على ذلك من خلال المتن الحكائي للنص المسرحي الذي جاء مضمونه أن هناك سيدة تركية شابة تركها زوجها مع طفلها الوحيد وذهب إلى الحرب وحاول أحد الصينيين ـ مستغلاً غياب زوجها ـ أن يعتدي عليها، ولكن السيدة التركية دافعت عن نفسها ببسالة وشجاعة، ولما لم يتمكن منها رفع في وجهها السلاح في قوة بالغة، فيما كان زوجها يمتطي جواده ويعود مسرعاً، فقد نسي درعه الذي يعتمد عليه في خوض المعركة، ويفاجأ الزوج بزوجته الجميلة مدمية، ومن هول ما رأى طار صوابه وخرج ليعود بالصيني ويرميه أرضاً أمام زوجته فيذبحه كالحيوان. ويرى"عامر صباح المرزوك"أن هذه الدراما عبرت بصدق عن الحياة البدوية المتدفقة التي كانت تميز الترك، حيث تجمع في دفتيها الخصال القومية كحب الوطن والشجاعة والعفة من جانب، ونقل التراث السياسي والعسكري بين الصينيين والترك من جانب آخر. وهي تقنية أسلوبية تقترب من أسلوبية الكاتب الإغريقي (اسخيلوس) في مسرحية (الفرس) حيث وثّق المعركة التي دارت بين الإغريق والفرس درامياً، وهو توثيق تاريخي مهم كون اسخيلوس كان من المشاركين بفاعلية في تلك الحرب. ثم تظهر كثافة المعرفة بشكل ثقيل من خلال كتاب (آكن Akın) للحاكم (عصمتي خان الثالث) وتدور فكرته حول قصة (إبن دمير) وعلاقته بـ (صونا) في مكان هو في أواسط آسيا، ولعله من النصوص الأولى التي وقف عليها الباحثون وهم يحللونه ويدرسون ظروفه وواقع فعله وما اختلط به من خرافة حول رب جبال القفقاس، وصحراء كوبي. لقد عاش ناظم حكمت حياةً غير مستقرة، إذ كان يعيش بحساسية الشاعر وقلق السياسي، فلا يمر حدث أو موقف من دون أن يكون له فيه رأي أو قصيدة أو مسرحية أو رواية، فكان على المتتبع لحياته أن يراقب المصادر ويدقق مصداقيتها للوصول إلى ترجمة حية وصحيحة وموثّقة توثيقاً علمياً. إن عدم الاستقرار الذي غلب على حياة ناظم حكمت ومطاردة السلطات الحكومية له في وطنه، وحياة التنقل التي عاشها في بلدان أوربا الشرقية، ثم إستقراره الطويل في موسكو برغم تكرار زياراته إلى تركيا , جعلت منه إنساناً مغترباً يعاني الاغتراب والإغراب الذي لازمه طوال حياته. وثمة مشكلة تواجه المتابع لدقائق حياة ناظم حكمت، فهو قليل الحديث عن نفسه، وإن المتابعين لحياته أخذوا الكثير من دقائقها عن طريق الرسائل التي كان يتبادلها مع أصدقائه وزوجته في أثناء فترة سجنه. وعلى الرغم من ذلك بقي الجزء الأكبر من حياته خفياً وغير معلن حتى كتاباته لم تمط اللثام عن حياته وهذا ما جعل الناقد (أكبر بابا ييف) يقول: إن منجز ناظم"لا يكشف النقاب عن وجهة نظره الفلسفية والسياسية". لقد تميزت حياة ناظم حكمت بحسب"المرزوك"بعدم الإستقرار الناتج عن إنتمائه الفكري والأيديولوجي. كما أنهُ آمن باليسار فكراً أيديولوجياً وظل متمسكاً به حتى آخر لحظة في حياته , وكان لولادته تأثير كبير في مفردات حياته وقد قابل ذلك بالإحتفاء بها والنظر اليها نظرة حب وإحترام فائقين حتى أضحت مرجعية مهمة أخذ عنها الكثير من صفات حياته. فالمدة التي قضاها في السجون مقابل أفكاره وأدبه منحته تجربة غنية وكوّنت لديه مرجعية مهمة أمدته بالكثير من الأفكار التي أثث بها مسرحياته. لقد توصل المؤلف (عامر صباح المرزوك) الى أن ناظم حكمت , قد عرف المسرح منذ بواكير حياته الأولى. وقد تحولت الطبيعة الشاعرية التي غلبت على حياة ناظم حكمت , إلى ممارسة كتابية في الدراما واصطبغت بها , فيما تمثّل ناظم حكمت مسرح مايرهولد تمثلاً حقيقياً نابعاً من الإلتصاق المباشر بهذا المسرح. كذلك فإن"حكمت"قد آمن بالمسرح الأيديولوجي الذي وجد فيه متنفساً لطرح أفكاره وإستعراضها. ويُمكن أيضاً الوقوف على إتجاه هام تمثل بإفادة ناظم حكمت من التراث مبيناً قدرته في تناول الموضوعات الفولكلورية وإعادة صياغتها كما في مسرحية (حكاية حب أو فرهاد وشيرين). كما جعل"حكمت"معادلاً بين الحب والفن اللذّين سارا بالقوة والأهمية نفسيهما، وهذا الثقل نفسه والموازنة الموضوعية تحولت إلى صراع داخلي في فضاء الجسد. فناظم حكمت جهد ساعياً ليجعل من الفن أداة لرقي وتغير العالم، كما في مسرحيتي (حكاية حب أو فرهاد وشيرين) و(مهما يكن الثمن). لقد ظل ناظم حكمت يحلم طوال حياته بتحطيم البرجوازية ويظهر ذلك جلياً في مسرحياته مهما إختلفت موضوعاتها وأفكارها. ونظرتهِ تبدو منفتحة على الهم الإنساني وكيفية علاج هذا المجتمع بشتى الأساليب والطرق والتفكير بإيجاد حلول ناجعة لتخليص الإنسانية من الظلم والاستبداد، وهي سمة في جميع مسرحياته.