نزهة في مسرح شفيق المهدي..لا يوجد عمل فني بمعزل عن التجربة الوجدانية

Wednesday 17th of October 2018 07:16:20 PM ,

عراقيون ,

أحمد كاظم نصيف
هذا اللقاء يؤشر مدى تأثير ظاهرة التشكيل الفني وأدواته في المسرح، وعلى الأدق فهو حوار يعنى برصد ما هو مضمر ومخفي واللاوعي في النص، وأثر عناصر العمل الفني وتكوين التجربة الوجدانية عند الدكتور شفيق المهدي، الذي يميل إلى مدرسة»قسطنطين ستانسلافسكي»في إشراك الجمهور وجعله ضمن تقنية ومفهوم النص المسرحي،

حين يلتقطون الحوار، ولا يصبحون جزءا، أو طرفا، في المشهد فقط، بل أن لهم المشهد كله، ويضيئون المسرح بعد أن ينقلهم من العتمة إلى النور؛
والمهدي الذي لم يستقر على منهج مدرسة واحدة كما قال سامي عبد الحميد، فقد جاوز في مخزونه الوصف الأدبي، وكتب المقالة الأدبية كما كتب المقالة الصحافية، وغادر المقالة حينا إلى الخاطرة، ولم يحده عصر معين كما لم تحده ظاهرة معينة، بعد أن مضى مع عصور الأدب كافة، وكما إستهواه المسرح، فقد إستهواه النثر وكذلك الشعر أيضا، ولعلّه كان له من اليقين بأثر هذا على الفكر، ما تجاوز الواقع إلى شئ من المبالغة البليغة اللذيذة الممتعة، وهي مبالغة توشك أن تكون واحدة من أبرز سمات شفيق المهدي، فيما دعا إليه من رأي أو حرص عليه من توجيه، سعيا للاقناع، فله عالمه الداخلي الخاص، وهو عالم نحرزه حَرزا أو نحسه حدسا، ولكننا لا ندركه، لأن الدكتور شفيق لم يفصح عنه في أي مما كتب، إلّا حين ندرك بواعث هذه المبالغة والدوافع إليها؛ وهنا نص الحوار:

إنتهى سَفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم، فاذا ظفروا بأنفسهم، فقد وصلوا"، تشير هذه العبارة إلى غاية العمل الفني، بقدر ما تشير إلى غاية التجربة الوجدانية، أين ظفرت بنفسك؛ في العمل الفني، أم في التجربة الوجدانية؟
– ما مؤكد بالنسبة لي، إن العمل الفني هو نتاج التجربة الوجدانية، لا يمكن أن يكون هناك عمل فني بمعزل عن التجربة الوجدانية، ثم تأتي تراتيبية العمل، إذ أن العمل الفني هو ولادة من ولادات التجربة الوجدانية، ولا يمكن الفصل بينهما؛ الوجدان عندي هو غير الوجدان المتعارف عليه، ودائما ما نوهت لهذا، الوجدان هو مزيج من الضمير وحركية الروح ومزاجية الـ (أنا) وحكمة العقل، هذه العناصر هي التي تشّكل الوجدان، كذلك العمل الفني، كيف يتفحص العقل المادة، وكيف تتسرب الفكرة إلى الروح، وكيف تخرج منك، إمتزاج العناصر واحد، بيد أن النتائج هي التي تختلف بين فنان وآخر، وبين أديب وآخر.
هذا يعني أن عناصر العمل الفني مكملة لعناصر تكوين الوجدان؟

– نعم، فكميائية العناصر تتجسد في تفوق العقل عند أحدهم، وتفوق الوجد عند آخر، وتفوق المزاج عند غيره، وهناك من يتفوق في إمتلاك عناصر وأدوات التشكيل الجمالي، ولهذا تتسيد المذاهب الأدبية بناء على هذا، عندما تأتي الرومانسية تطغى على المناخ العام السائد وتملك فكر القراء والمتابعين والمفكرين معا، وعندما تنطفئ يأتي مذهب آخر يتسيد المشهد، مثلا التعبيرية، وكذلك الكلاسيكية، وجميع المذاهب، إذ أن المذاهب الأدبية هي نتاج شعوب، مزاج شعوب، قوانين شعوب؛ أما العمل الفني فهو نتاج أنا، يخاطب أنا واحدة، في جميع أعمالي المسرحية أقدم عملي لمتفرج واحد، غير مسمى، ولا يعنيني الجميع، لا يوجد عندي خطاب معين مباشر، هذا الـ (واحد) هو الموهوم في فكري ومخيلتي.

يحدثنا نيتشه : إن المأساة اليونانية نبعت من الديانة الديونيزيوسية أو عبادة ديونيزيوس، هذه العبادة التي تقدس النشوة، وتمجد اللذة البدنية، وتؤثر الفرح، ومن هنا جاءت العبادة الأبولونية لكي تتوازن مع الديانة الديونيزيوسية، ومن شأن عبادة أبولو أن تقدس العقل، وأن تحترم التصميم والأحكام، لأي مدى يكمن هذا التشكيل في المسرح؟

– هذا فن يتسم بالعمق، وهو نتاج لحظة توازن قلقة، غير مستقرة، بين ديونيزيوس وأبولو، مبدأ عبادة ديونيزيوس أن تحيي طقوسها بالعربدة والسكر وتميل إلى ما هو فاضح وحسي، فهي إطلاق القوى الحيوية في الانسان، بل هي تكريس لغرائزه وتفجير لها، وليس من شأن التفجير أن يتخذ شكلا أو يلتئم في نظام، وأن تحيي طقوسها بالتأمل والكرنفال وتميل إلى المهرجان والعرض، إن ديونيزيوس هو إله النبيذ والمتعة، ورمز إمتلاك الحياة بالفرح، ودليل الحركة المنتشية والمغامرة، وإله يلهم الرقص والموسيقى والغناء، أما أبولو فهو إله السلام النفسي والسكينة الروحية، يوحي بالعقل والمنطق والتأمل الفلسفي، والمتحكم به، ويلهم أتباعه فنون التصوير والنحت والشعر الملحمي؛ هذا يعني إن الفن العظيم في نظر نيتشه هو الذي يستطيع أن يخدم هذين السيدين في آن، بأن يكون رقصا ونحتا معا، يجمع بين خصائص الفنين وأدوات التعبير، فرحة الحياة في الرقص، وكمال التصميم في النحت، وهنا يكمن تأثير التشكيل الفني في المسرح.

كيف ترى التشكيل في المسرح العراقي؟ هل دلالاته واضحة وتم توظيفها بدقة فنية معاصرة؟
– التشكيل في المسرح العراقي هو إستنتاج فلسفي، تجسد في مسرح صلاح القصب، مع ميل للمخيلة الجامحة، بما يعني تغليب الخيال، وتغليب ما هو غرائبي، وهنا القصب لا يخرج عن قوانين المسرح، بل يوازن في هذه اللحظة، لذلك تجد تحولاته كثيرة وغير مستقرة، ربما فيها مزاج، بيد أن فيها آفاق مستقبلية لذلك نجح في أعماله المسرحية؛ أما أعمالي فقد غلب عليها التشكيل، كيف أضع الجسد في بيئة، وكيف أصل بما هو سر إلى الجمهور من غير وسائط، الممثل يؤدي دورا ويقول سرا لا يفهمه هو، بل الذي يفهمه هو الجمهور، ولهذا أضع الممثل في بيئة صاخبة ومثيرة جدا، وقلقة، لكن ضمن مشهدية ثابتة، ولكي يقدم الممثل محاكاة فنية لفعل حياتي لشخصية متخيلة، فإنه قد يمارس عواطفها وإنفعالاتها وأحاسيسها في أداء تقمصي ويقدم محاكاة ذهنية، ومن ثم لا إلزام على الممثل أن يدخل في أهاب الشخصية ليمارس مشاعرها وعواطفها، الغرض هنا أن يحقق الممثل الدور المسرحي؛ الذي هو المحصلة النهائية للعلاقة الجدلية بين الشخصية الدرامية التي لا تخرج عن كونها نسيجا لغويا يحدد كائنا خياليا موجودا بالقوة، كامنا داخل النص المسرحي؛ أعرف المدركات التي تشتغل عليها الروح عند"قسطنطين ستانسلافسكي"، المدرك الحسي والمدرك الروحي، لكن دائما ما أضع مسافة بيني وبين مدرسة"ستانسلافسكي"، معتقدا بأن حركة واحدة من الجسد ممكن أن تنتج تأويلات كثيرة ومفهوما شاملا وواسعا جدا؛ أختار الروح الشاعرية في صياغة المشهد، قال مرة سامي عبد الحميد:"شفيق المهدي لم يستقر على منهج مدرسة واحدة"، هذا صحيح، لكنني أميل إلى الحركة التعبيرية.

لأي مدى نؤمن بأن المسرح"كتقنية تربوية"يعنى بأهمية"مسرح الطفل"و"المسرح المدرسي"، على إنهما وعي وفكر وسلوك، أكثر مما هما ترفا وتسلية؟

-لم يكن المسرح ترفا في كل تاريخه، إذ كانت العروض المسرحية الأثينية في اليونان، تجتذب المدينة بكاملها لمشاهدة العرض المسرحي، ومن دون تذاكر، ولا أميل على أن المسرح تنويري بقدر ما هو دراما، التنوير في المدارس الابتدائية والمتوسطة فقط، الملك فيصل الأول بنى مسارح في المدارس حينها، لاعداد جيل، عندما يكون المسرح تنويريا ويقدم المواعظ يتحول إلى منبر فيسقط؛ المسرح يكون تنويريا في لحظات عاصفة في تاريخ الأمم فقط، حين تكون الأمة فيها بحاجة إلى هتافات وشعارات، أما الدراما فلا تعنى بالتنوير ولا تحمل رسالة، الدراما تحمل منجزها بذاتها، تهدف إلى إستقرار المجتمع في مدارسه وجامعاته ومصانعه ومزارعه وأزقته، أما المسرح التنويري، فقد كان في عصر التنوير في القرن الثامن عشرتجتذب المدينة بكاملها لمشاهدة العروض، ومن غير تذاكرمجتمع في جامعاته ومصانعه ومزارع، وقائد هذه الحركة هو الفرنسي دنيس ديدرو، المسرح لا ينتج المواعظ والارشاد والحكم والنصائح، المسرح ينتج دراما؛ أول عرض مسرحي شاهدته وأنا طالب في الدراسة الابتدائية، في مدينة الديوانية، في قاعة كبرى، كان الممثلون من الحرس القومي، دخل الممثل وهو يهتف"أمة عربية واحدة"وكان الشيوعيون جالسون في قاعة العرض، فما كان منهم إلّا أن يمطروه بسيل من الشتائم ويعتلون منصة المسرح وتنشب معركة بين الطرفين إمتدت إلى منتصف الليل؛ هذا هو مسرح الهتافات والمواعظ!
هل جسدت هذه الدراما الجميلة في أعمالك؟

– نعم، فقد قدمت مسرحية (لعبة الحلم) للسويدي أوغست ستريندبرغ، وهذه المسرحية لم تعرض إلّا في ثلاث مدن،"لندن وستوكهولم وبغداد"فقط، حتى أن معهد ستريندبرغ خاطبني وقتها،"كيف تقدم بغداد (لعبة الحلم)؟ وهل من المعقول أن مخرجا شابا من العالم الثالث يتجرأ ويقدم هذه المسرحية؟"قدمتها لمدة ساعتين متواصلتين بعرض باذخ الجمال، ولم تكن في نيتي أو هدفي أن أقدم رسالة إطلاقا، الرسالة هي هذا المغزى السري الدفين في تهشيم معنى الحرب وما تخلفه من دمار؛ حتى أني تساءلت في نفسي عندما رشحت المسرحية لجائزة أفضل مخرج:"يا شفيق كيف تقدم (لعبة الحلم) وأنت بعمر 27 عاما، ماذا ستقدم بعمر الخمسين؟"وللآسف الآن أنا بعيد عن المسرح، فبالاضافة إلى العمل الاداري الذي شلني فنيا، هناك عوامل أخرى، من أهمها وأبرزها، أن الجمهور الذي يقف بالطابور لساعات كي يحصل على تذكرة دخول المسرح أو السينما، إنتهى زمنه ولن يعود!

إلى ماذا تعزو هذا العزوف من قبل الجمهور عن الحضور للسينما والمسرح؟

– المسرح الأن غير مجدٍ ولا ينفع للجمهور، كوننا لم نتآلف مع الدراما بطريقة حاسة ومدركة، المسرح الحديث حاول أن يصل إلى هذا المعنى العميق بأن يكونا الدراما والمسرح جزءا مهما من نسيج المجتمع العراقي، إلا أنه حاول وأخفق في النهاية، وفشل فشلا ذريعا؛ منذ التسعينات لا يوجد مسرح، أين المسارح الأهلية؟ المسارح ودور السينما تحولتا إلى مخازن لبضائع التجار! المجتمع الأن تسيطر عليه الغريزة، ويجري خلف أوهام ورموز واهية منطفئة، وأصبح من الصعب جدا أن يعاد المسرح الأن.

الشعر صوت، والمسرح صوت، أيهما أفاد من الآخر؟ وأي فلسفة منهما تؤثر في المتلقي؟ بمعنى آخر: أيهما ترجح في الخطاب الفني المسرحي، الشعر أم النثر؟ ومن أقرب إلى لدراما التراجيدية؟

– تاريخ المسرح منذ تأسيسه حتى العصر الحديث هو تاريخ شعر، ومنذ القرن الثامن عشر بدأ النثر يظهر، والشعر يتهاوى، وتحول المسرح إلى نثر، ومع أول ومضة وإشارة للواقعية بدأت الكتابة بالنثر مع المسرح الطبيعي ثم المسرح الواقعي، الأن تقدم مئات النصوص من النثر مقابل القليل جدا من الشعر، كان أبرز من تبنى النثر أنطون تشيكوف، وبرنارد شو الذي عمقه وركزه وأغناه، وأيضا صاموئيل بيكيت الذي يكتب بلغة شاعرة تجاوزت الشعر، في بعض مناطق مسرحية"في إنتظار غودو"كتب بيكيت لغة أرتقت وفاقت الشعر، بسبب هول بلاغة ما تعطيه من معنى؛ بيد أن النثر لا يمكن أن يبقى دائما في ساحة الدراما، بل يطرد من قبل اللغة الشاعرة، قد يستمر النثر موسما أو إثنين، ويعاد في دولة هنا، ودولة هناك، بيد أن شكسبير باقٍ ويعاد في كل موسم مئات المرات، والجملة الموسيقية الآخاذة لبيكيت ما زالت هي الأخرى حتى الأن يتغنى بها القراء، وأيضا أوجين يونسكو، ولو أحصينا كم نص مسرحي عظيم منذ أن بدأ الانسان يكتب المسرح منذ أسكيلوس وهوميروس وسوفوكلس، مرورا بشكسبير، إلى الأن، ربما لا تتعدى خمسة عشر نصا، منها،"مكبث، هاملــــــت، أوديب ملكا، الملك لير، العطش والجوع، في إنتظار غودو"هذا هو الأدب الخالد.

ما هو موقف المسرح من مأساة الانسان العراقي المعاصر؟

– الأمة العراقية، والفرد العراقي، يملكان تراثا مذهلا لا ينضب من الكبت؛ ليس هناك أمة أو شعب أو فرد، يدخر خزينا تراثيا من الكبت ومن اللاوعي بقدر ما يملك العراقي؛ وحسب مقولة فرويد"الثلث العائم والثلثين الغاطسين بالماء"فأن الشعب العراقي كله غاطس؛ ولم يظهر منه إلّا القليل، ربما يظهر منه العشر، والتسعة أعشار الباقية غاطسة، إنه غارق في الكبت، غارق في الفكر والوعي والدين والثقافة، وفي الرغبات الشخصية، وحتى في ميراث الأسرة؛ هذا هو تشكيل الفرد العراقي، وأجد نفسي بعد أن درست علم النفس، وبالذات"فرويد"ولا سيما كتابه"تفسير الأحلام"إذ كان ضمن متطلبات دراستي"إستقصاء تفسير الحلم في المسرح"أن أقول إن المجتمع العربي سجن كبير، والعراق زنزانته الانفرادية؛ وبرغم كل هذا، الفرد العراقي ما زال يعطي ويبدع، ربما من سمات الاستبداد أن يمنح"هوية العطاء"؛ وهذا كله بحاجة إلى مسرح يعنى بقضايا الشعب وهمومه، لكن كيف يتعامل المسرح وفق معطيات القحط، والخواء، والفقر الثقافي، والافلاس الفكري؟ كيف يتعاطى المسرح مع مدراء عاميين، أحدهم يصف الحركة التشكيلية السريالية، ويقول:"السريانية"؟ كيف يتعاطى المسرح مع آخر من هؤلاء الذين يعملون في حكومة الديمقراطية الجديدة، يعتقد بأن النحات الشهير جواد سليم"مطرب مقامات"! ومنهم من يعتقد بأن الممثل يوسف العاني على إنه"مغني"! كيف يكون للمسرح موقف من هؤلاء، ومع هؤلاء؟؛ من يحيي عظام المسرح وهي رميم؟ عندما يقف المسرح بكامل صحته وإناقته ورشاقته، في بيئة مناسبة وخصبة، وإستقرار نظام سياسي وإستقرار نظام إجتماعي، سيبدأ النداء الخفي بالمطالبة بمسرح جاد، وسيكون للمسرح موقف، وحينها سندينه فيما إذا لم يؤد الدور الذي يجب أن يكون عليه، أما الأن فالمناخ السياسي مرتبك جدا، ولم تنجح فيه سوى التجربة الوزارية الشيوعية فقط المتمثلة بمفيد الجزائري ورائد فهمي، فهما أثبتا أنهما أنزه وزيرين، إضافة لدعمهما للثقافة العراقية، بيد أن القاعدة الجماهيرة للحزب الشيوعي ضعيفة جدا للآسف، على الدولة أن ترعى المؤسسات، والمؤسسات بدورها ترعى الأفراد، والأن لو نظرنا إلى أهم مؤسسة علمية وهي الجامعات، سنجدها بائسة؛ ومتى ما إستقام التعليم سيكون هناك وعي وفكر وحينها سيكون هناك مسرح.