برتولوتشى.. الشاعر الذى تحول إلى متمرد

Tuesday 4th of December 2018 06:39:43 PM ,

منارات ,

أحمد قاسم
إذا كان الألمان ذات يوم قد احتكروا الموسيقى والفلسفة والفيزياء وعلم النفس، وإذا استأثر الإنجليز بالمسرح والتاريخ والشعر، فإن إيطاليا لم تتفرد على مدار تراثها المديد سوى بالنحت والأوبرا والسينما، كلها فنون وإن اختلفت فى شكلها وصورها، تمحورت جوهريًا حول الإنسان والتعبير عن أزماته ومشكلاته.

منذ ظهور بابا الفاتيكان «ليون الثالث عشر"على أول فيلم إيطالى فى التاريخ مباركًا للكاميرًا، مرورًا بظهور أول شركات إنتاج سينمائى فى إيطاليا عام 1908، واستغلال «موسولينى"لصناعة السينما فى الدعاية الفاشية، وانتهاء الحرب العالمية الثانية، وظهور الموجة الواقعية الجديدة «Neorealismo»، وحتى الآن فى ظل استفحال ونجاح السينما الأمريكية، لا أحد ينكر فضل السينما الإيطالية على جميع الفنون الحداثية، ولا أحد سينسى أسماءً مثل «فديريكو فيللينى»، و«مايكل أنجلو أنطونيونى»، و«فرانشسكو روزى»، و«روبرتو روسيللينى».
لم يكن لتلك الأسماء الفضل فى إرساء دعائم الموجة الواقعية الجديدة للسينما الإيطالية فحسب، بل تمكنوا جميعهم من إعادة تشكيل ماهية السينما والتمرد على المفاهيم التقليدية والتركيز على قلق الإنسان الوجودى بدلاً من الميلودراما الكلاسيكية، وأحد هؤلاء هو العظيم «برناردو برتولوتشى"الذى رحل عن عالمنا يوم الاثنين 26 نوفمبر عن عمر يناهز الـ77 عاما، ليفقد الإرث السينمائى أحد عمالقته.
وُلد «برتولوتشى» عام 1941 لعائلة برجوازية تسكن مدينة بارما فى الشمال الإيطالى، أبوه كان الشاعر والروائى والمؤرخ الفنى الشهير «أتيليو برتولوتشى»، وأخوه هو «جيوزبى برتولوتشى"المؤلف المسرحى المرموق، وابن عمه المنتج السينمائى «جيوفانى برتولوتشى».
أبوه الروحى كان المخرج والشاعر العظيم «بيير باولو بازولينى»، الذى كان له الفضل عليه فى أن يبدل مساره للأبد من الشعر للسينما بعد أن قال له إن «السينما هى شعرٍ من نوع آخر»، ولولا ذلك لما رأينا روائع على مدار خمسة عقود مثل «التانجو الأخير فى باريس»، و«الإمبراطور الأخير»،و«الجمال المسروق» و«قبل الثورة».
لقد نشأ «برتولوتشى» وسط جو ثقافى استطاع من خلاله إرواء ظمأه للفن والسينما والشعر، فلم يتم الخامسة عشرة من عمره إلا وقد شرع فى تنظيم الشعر بشكل هيستيرى ليحصل بعدها على جائزة «بريميو فياريجيو"عن أول ديوان شعرى يحمل اسمه، وسرعان ما اختاره «بازولينى» مساعدًا له فى فيلم «أكاتونى» عام 1961، ليترك كلية الآداب بجامعة روما فى نفس العام.
وبعد ذلك بعام وبعد أن أتم «برتولوتشى» عامه الـ22، قام بإخراج أول فيلم روائى طويل له بعنوان «قابض الأرواح"الذى كتب نصه بالاشتراك مع «بازولينى»، ليصنع بعدها عام 1964 أول تحفه الفنية وهو فيلم «قبل الثورة»، بعد فشل أول أفلامه تجاريًا وجلوسه عامين عاطلاً عن العمل.
كان هذا الفيلم إحدى أولى المحاولات القديمة لإعادة إحياء السينما الإيطالية، الذى وجد فيه النقاد أصداءً من الموجة الفرنسية الجديدة والشطحات السينمائية لعباقرة تلك الموجة.
بعد هذا الفيلم انتظر «برتولوتشى» 4 سنوات، أخرج خلالها فيلمًا وثائقيًا عن البترول من ثلاثة أجزاء لصالح التليفزيون الإيطالى ثم فيلمًا قصيرًا بعنوان «ألم» عام 1967، وشارك فى كتابة سيناريو «حدث ذات مرة فى الغرب» لعبقرى «الويسترن"«سيرجيو ليونى».
وسرعان ما أخرج فيلمه الروائى الطويل الثانى «الشريك"عام 1968، المستلهم من قصة «البديل"لأبو الأدب الروسى «فيودور ديستويفكسى»، ثم شارك فى إخراج فيلم «حب وغضب» مع أربعة مخرجين آخرين، أحدهم «جودار"الذى كان بمثابة أبيه الروحى الثانى دون أن يلتقيه قبل هذا الفيلم، وأصبحا صديقين مقربين قبل أن اعتنق «جودار"الإيديولوجية «الماوية».
ومع ذلك فقد تأثر «برتولوتشى» بـ«جودار"بدرجة كبيرة، فكانت بداية هذا التأثر مع فيلم «الشريك"الذى اعترف «برتولوتشى» أن هذا الفيلم تسبب له فى معاناة شديدة فيما يتعلق بمحاكاة أسلوب «جودار"السينمائى السردى الشهير، والذى يبدو قريبًا من التعبير الذاتى، بحيث يستخدم الكاميرا كمرآة يعكس من خلالها رؤيته الشخصية للواقع وأحاسيس البطل ومشاعره، ناهيك عن استخدامه لتكنيك «جودار"الثورى الشهير وهو الانتقال السريع الفوضوى للمشاهد «Jump cuts»، والتلاعب بعنصرى المكان والزمان.
قرر «برتولوتشى» قتل روح «جودار"داخله بأن أخرج فيلم «الملتزم» عام 1970، الذى نرى فيه البطل «مارشيلو"يتخلص من أفكاره الثورية القديمة وينضم للحزب الفاشى ويقتل أستاذه «كودارى» المعادى للفاشية بطريقة طقوسية، وعن هذا يقول «برتولوتشى» فى أحد لقاءاته الصحفية إنه صنع فيلمًا فاشيًا ليقتل «جودار"الثورى.
فيلمه التالى كان «خدعة العنكبوت"عام 1970، المأخوذ عن قصة قصيرة لـ«خورخى بورخيس»، ويدور حول شاب يعود لقريته بعد ثلاثين عامًا من مقتل أبيه على أيدى الفاشيين، ويحاول كشف ملابسات هذه الجريمة، ليكتشف فى النهاية أن أباه رجل خائن على عكس ما يؤمن به أهل القرية، وقد أفشى أسرار مؤامرة اغتيال «موسولينى"للنظام.
وفى 1972، أخرج «برتولوتشى» أحد أكثر الأفلام إثارة للجدل فى التاريخ، «التانجو الأخير فى باريس"من بطولة العملاق «مارلون براندو»، ونرى فيه «جين» البرجوازية الفرنسية تتمرد على تقاليدها بأن تخلت عن خطيبها من أجل «بول» الذى يعيش فى عزلة بعيدًا عن العالم الخارجى ناكرًا هويته الاجتماعية ورافضًا الانتساب لأى عائلة بعد أن هزمته الثورة، ونرى أيضًا لأول مرة «برتولوتشى» وهو يستخدم عناصر الفن الأوبرالى فى الفيلم من خلال توظيف الخط الدرامى للموسيقى، ونشاهد كذلك تأثره الشديد بالفن التشكيلى عبر استخدامه المكثف للوحات رائد الانفعالية البريطانى «فرانسيس بيكون».
يعتبر هذا الفيلم هو الفيلم الوحيد الذى أثار عاصفة شديدة من الرفض فى أوروبا وقوبل باتهامات عنيفة نظرًا لمشهد الاغتصاب الشهير فيه، والذى جعل العديد من النقاد يصنفون الفيلم تحت فئة «البورنوجرافيا»، فضلاً عن منعه فى إيطاليا وتدخل الفاتيكان للضغط على القضاء من أجل الحكم على المخرج وبطلى الفيلم بالسجن مع وقف لتنفيذ بتهمة «خدش الحياء».
فى حديث معه نشر عام 2013 اعترف «برتولوتشى» أنه اتفق مع «براندو"سرًا على طريقة تنفيذ مشهد الاغتصاب والذى استخدم فيه «براندو"عصا مغطى بالزبدة من أجل إضفاء المزيد من الواقعية، بدون علم الممثلة «ماريا شنايدر»، وبرر ذلك بالقول إنه أراد أن تشعر «شنايدر"بأنها تُغتصب، لا أن تمثل ذلك.
فى فيلمه التالى «1900»، استعرض «برتولوتشى» فيه الحياة الاجتماعية والسياسية فى إيطاليا إبان مطلع القرن العشرين، واستعان فيه بمجموعة واسعة من الممثلين على رأسهم «روبرت دى نيرو» و«أليدا فالى» و«بيرت لانكاستر»، ونراه كذلك يتجه نحو الدراما النفسية فى فيلم «لونا» عام 1979،ثم الكوميديا فى فيلم «تراجيديا رجل سخيف» إنتاج عام 1981، وبعد ذلك بتسع سنوات يعود مجددًا إلى إحدى روائعه فيلم «الإمبراطور الأخير"الذى حاز على تسع جوائز أوسكار، فى سابقة هى الأولى من نوعها.
ويسرد هذا الفيلم قصة آخر إمبراطور صينى «بو يى»، وقد انتقد «برتولوتشى» من خلاله النظام الشيوعى «الماوى» رافضًا الخضوع لأى نظام أو أيديولوجية سياسية بعينها.
بعد ذلك أخرج فيلم «السماء الساترة"و«بوذا الصغير»، وكلا الفيلمين لم يحصلا على أى إشادات نقدية إيجابية، ومع ذلك ورغم جلوسه على كرسى متحرك، شرع «برتولوتشى» فى إخراج آخر أفلامه «أنا وأنت» عام 2012، الذى عرض خارج المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائى، واستخدم جميع «ثيماته» المشهورة على رأسها التمرد والغضب والقلق الوجودى، والاستخدام المميز للصورة والثورة على أى وصاية.