ثالث أيام الأسبوع.. عريان.. مات!

Wednesday 12th of December 2018 06:44:58 PM ,

عراقيون ,

عبدالكريم العبيدي
وصلتُ الى مبنى اتحاد الأدباء في العاشرة صباحاً. جلسة الاحتفاء بي تبدأ بعد ساعة. سأنتظر، وسأستقبل القادمين. لم أدر أن أول مصافحة تنتظرني ستزف لي خبر الفاجعة!
ضربتُ كفَّاً بكف، وهمست لنفسي: عريان مات.. مات.."بلايه وداع... مثل الماي من ينشف بلايه وداع».

قبل الساعة الحادية عشرة بقليل، وصل العزيز الأستاذ مفيد الجزائري، رئيس الجمعية العراقية لدعم الثقافة، المؤسسة الراعية للاحتفاء. بدا فرحاً وسعيداً كعادته. جرى حوارٌ اطمئنانيٌ بيننا. سألني عن ملامح الحضور، وعن مجرى الاستعدادات. قلت له: كل شيء على ما يرام، ولكن الجو ممطر الى حد ما، و..."خبر عريان». ظلت الابتسامة تلوح بين شفتيه، صوَّب نظره نحو مقاعد قاعة الجواهري، ثم عاد وسألني: هل هذا هو كل الحضور؟ رددتُ بنبرة مشوَّشة: حضورٌ هنا، والكثير قرب الباب، وكما تعرف الكل منشغل بـ..."عريان».. التفت نحوي هذه المرة مستفهماً:»اشبيه عريان»!؟

يا الهي....
صمتُ.. تمتمتُ بكلمات مبعثرة.. وبلعتُ ريقي وتنحنحت. لا جدوى من كل ذلك. فالجزائري لا يدري، وما زال ينتظر جوابا.
طأطأتُ رأسي وقلت بصعوبة: عريان.... مات.
انكمشت الابتسامة قليلاً، كأنها طفل وديع لامسه البرد. ثم أخذت تنخفض ببطء، حتى وصلت الى درجة الصفر، ثم تلاشت....
- قبل يومين كان بيننا في البيت الثقافي، كان مفعماً بالحياة.
نعم كان كالماء يا أبا نيسان، ماء الفراتين، ماء عراقي،"دهله»، والماء كما أخبرنا عريان"ينشف بلايه وداع»!
«بلايه وداع اذن». بلا وداع مات، وماتت لازمته الخاصة بي، بكل لقاء كان يجمعنا، ومن أول نظرة لي، كان يهتف متسائلا:"وينهه»؟

تلك قصة قديمة، لكنني كنت أرد بقهقهة دائماً، ثم أهرع نحوه وأعانقه. نتحاور قليلاً، نلتقط صورة جديدة، وألقي له نكتة عراقية جديدة. يضحك ضحكة خافتة. لم أسمع منه قهقهة قط. قلبه المليء بهمومنا، المكتظ بالشعر، الموجوع... لا يتكرم الا بضحكة خافتة.

يا لحزنك!
قررتُ أن يبدأ فرح الاحتفاء بي بدقيقة حداد! دقيقة حداد يا"عريان». لا بد من طقس أولي يليق بك. هو احتفاؤنا معا يا أبا خلدون. أنا وأنت و»كتارا"وفاجعة الفقدان.
أف....
ارتبك محمد علوان، مدير جلسة الاحتفاء. ظل يقارع الكلمات والجمل كغريق في بحر، ثم ضرب بكفه على الطاولة، ونهض الى"الدقيقة الحدادية"بصعوبة.
فاجعة!
امتزج رحيلك مع التقديم، مع الحضور، مع كلمات المشاركين، ثم نبت بصرامة على ملامح الاحتفاء.. وبين فينة وأخرى، ظلت تردني قصاصة من العزيز"أبي نيسان"ومن غيره.. ستصل الجنازة قريبا.. الجنازة في طريقها الى مقر"الشيوعي».. الجنازة وصلت الى"بيتنا الثقافي».. الجنازة في طريقها الى مبنى الاتحاد!
أترى يا"أبا خلدون"كيف كنت معي؟ كنت معي في جلسة الاحتفاء، كنت جنازة تسير فوق الماء. الماء الذي"ينشف بلايه وداع»، وكنا معا أنا وأنت في صيرورة تسعنا وحدنا، وكان الجميع يحتفي بنا، أنا وكتارا، وأنت ونعشك المهيب و...."بلايه وداع».

كنا معاً نعيد شريط صحبتنا، ولقاءاتنا، ونهاراتنا في طريق الشعب، وسفراتنا الى"المربد"و.....
وصلتَ أخيراً يا"عريان». وصلتَ جنازة حيّة، موشحة بكبريائك وعنفوانك، ترقص حولك أشعارك اللذيذة العامرة بالعشق والجمال، بينما كنتَ تبدو من داخل النعش كماء دجلة،"ينشف بلايه وداع، بلايه وداع». وحالما التفت نحوي ووجدتني أقف على قدمين مرتجفتين،"تدريني هرش ووجرت بيَّه الكاع»، سمعتُ لازمتك الخاصة بي تتماوج ساخرة:"وينهه»؟ ولأول مرة يا"عريان"لم أرد بقهقهة، ولم أهرع نحوك لأعانقك، ولم أسمعك نكتة عراقية. اكتفيت بالوقوف والصمت، وبدمعة انحدرت ساخنة، لكنها لم تجف، ظلت تلوح لك، تودعك، تودع الماء الذي....