سمير أمين.. استاذنا..

Tuesday 18th of December 2018 07:13:55 PM ,

منارات ,

حسين الهنداوي
قليلون جداً بيننا اليوم ربما اولئك الذين اطلعوا على كتاب «العراق وسوريا – 1960/1980"للمفكر الاقتصادي المصري الكبير سمير امين. الا انه كان اول من كشف ان مسيرة الحكومات البعثية بين 1968 و2003 قاد العراق الى مزيد من الفشل المؤسساتي والسقوط في التبعية للهيمنة الاجنبية وهو ما عززته دولة المحاصصة لما بعد الاحتلال الامريكي بعد 2003.

اذا أخذناه كمجرد مشروع على الورق، يبدو المشروع البعثي للتطور وعداً مغرياً لاسيما وانه وصف نفسه دائماً وبعنف كمشروع قومي وطني اشتراكي وتحرري. الا ان هذا الوعد ليس في واقعه العملي إلا وهماً كما أن التوصيف المذكور لم يتجاوز بعده اللفظي الانشائي المحض، فيما أظهر الواقع الملموس وعلى ضوء التجربة التاريخية المحققة ان المشروع البعثي للتطور لم يكن الا المشروع الأكمل والأسرع في تدمير امكانيات التطور الفعلية والكامنة للبلاد، وبالتالي في تدمير أي نزوع شعبي نحو تحقيق الاستقلال الوطني والتقدم الاقتصادي والتحرر والسير الفعلي نحو أي نوع من الازدهار، سواء الاشتراكي او الرأسمالي او غيرها على حد سواء.

ويعزز هذا الاستنتاج كون هذا المشروع اسفر عن ازدهار طبقة من الطفيليات الاجتماعية المتسربة من مختلف الطبقات الاجتماعية لتشكل في صفقة شوهاء في ما بينها فئة شبه تجارية جديدة ذات اصول ريفية حديثة في الغالب متخصصة في نشر العسكرتارية والمحسوبيات والفساد والمديح الاعلامي الى جانب القمع والتهريب كبضائع بذاتها. وهكذا، فالدولة البعثية في العراق لم تكن دولة لطائفة او اقلية معينة، انما هي دولة طفيلية بذاتها ولدت كنتيجة لقضاء النظام البعثي على البرجوازيات المدينية القديمة وتصفية المنظمات الشعبية واليسار التاريخي من جهة، ولبروز فئات وسطى جديدة في الريف والمدينة نصف أمية وشرهة بفضل فرص الإثراء السريع التي وفرها لها القمع البعثي العام للمجتمع.
ان اولئك الذين اطلعوا على كتاب «العراق وسوريا – 1960/1980" للمفكر الاقتصادي المصري سمير امين قليلون جداً ربما الا انهم يعرفون ان هذا الاستناج ليس غريبا بذاته. فهذا الكتاب الذي اكتمل تأليفه قبل بدء الحرب العراقية- الايرانية بقليل ونشرته بالفرنسية دار"منوي"قبل ربع قرن، تعرض الى ما يشبه النسيان حتى في فرنسا على الرغم، وربما بسبب، من كون الكتاب دراسة اقتصادية علمية محضة، وعلى الرغم من كون المؤلف يحتل مكانة رفيعة في ميدان الفكر الاقتصادي العالمي المعاصر. فهو صاحب نظرية"رأسمالية المركز والمحيط"التي تعتبر، حتى في الاوساط الرافضة لها، اهم نظرية في تفسير الطبيعة المشوهة للتطور الاقتصادي في بلدان العالم الثالث في القرن العشرين لا سيما تلك البلدان الغنية بالطاقات البشرية والثروات الطبيعية والمكانة الاستراتيجية والتاريخ اللامع وبكل ما من شأنه تحقيق تطور اقتصادي متين وشامل ومستديم في النصف الثاني من القرن العشرين كالعراق خاصة.
ان جوهر التفسير الذي تقترحه تلك النظرية ونتبناه هو، بكلمة، ان المشروع البعثي للتطور الاقتصادي لم يؤد في واقع الحال سوى الى ربط العراق اكثر فاكثر بدول المركز الرأسمالي الغربي في علاقة تبعية محضة تنسجم كل الانسجام مع الآلية الرأسمالية العالمية والتوزيع الدولي للعمل والثروات والادوار. بمعنى اخر ان هذا التفسير يقف ضد ويفنّد، النظرية المعروفة باسم"التطور اللارأسمالي"التي فبركها الموظفون الايديولوجيون الكسالى التابعون للحزب الشيوعي السوفييتي وتبناها الاخير رسمياً منذ مؤتمره العشرين (في 1956) ليبرر عبرها تحالفاته مع اكثر الانظمة دموية وفساداً وتبعية في العالم الثالث كنظام البعث العراقي. واذا كانت نظرية"التطور اللارأسمالي"قد سقطت الآن مع سقوط واضعيها، وسمير امين من القلة الاوائل الذين بشروا بحتمية كلا السقوطين، فان الكثير من نتائجها لا تزال تلحق الكوارث والآلام بشعوب العالم الثالث والشعب العراقي في مقدمتها.
وكما هو جلي بنظرنا، فان الكتاب اعلاه هو بمثابة تطبيق لنظرية"رأسمالية المركز والمحيط"المذكورة، من حيث ان سمير امين يتخذ من تجربة العراق وسوريا في ظل السياسة العملية لنظامي البعث الحاكمين فيهما، نماذج ملموسة لاثبات نظريته التي سبق له طرح مضمونها ومقوماتها بشكل مفصل وشامل في عدد من المؤلفات ذات الاهمية الكبرى في الفكر الاقتصادي العالمي الراهن ككتاب «التطور اللامتكافئ» و«قانون القيمة والمادية التاريخية"و«التراكم على الصعيد العالمي"و«نقد نظرية التخلف"و«التبادل اللامتكافئ وقانون القيمة"وغيرها. وبعض هذه الكتب جرت ترجمته الى العديد من اللغات بما فيها اللغة العربية في اوقات مختلفة.
واذا اقتصرنا على منظور سمير امين حول المشروع البعثي للتطور، فاننا نجده مبثوثاً في عدد من النصوص الصادرة بعد 1980 لاسيما كتابه"العراق وسوريا"ونصوص اخرى دأب على نشرها في السنوات الاخيرة. ولنلاحظ منذ الآن ان الكاتب رغم منهجيته الماركسية الصريحة، يتجنب، في كافة مؤلفاته في الواقع، الركون للاغراء الايديولوجي وما يتمخض عنه من تقييمات مسبقة؛ انما، وبلغة الباحث الاقتصادي الموضوعي، يحاول استقراء الاحداث وتحليل المعطيات الاقتصادية الفعلية. فمصادره الوحيدة، الى حد كبير، هي الاحصائيات والوثائق الرسمية ذاتها والنتائج هي وحدها من يتعرض للتقييم والمحاكمة وليس الاشخاص او المسؤولين الأمر الذي يضفي على الاستنتاجات قوة علمية صارمة، ومن هنا يأتي رصيدها والاعتراف العالمي بأهميتها.
خلاصة القول، يقوم منظور سمير امين حول"المشروع البعثي للتطور"على دراسة التطور الاقتصادي – السياسي لمنطقة الهلال الخصيب (العراق وسوريا حصراً) خلال القرن الاخير مع التركيز على الفترة ما بين 1963 و1980. فهذه الفترة، حيث يتموضع تطبيق المشروع البعثي زمنياً، تتسم بعدة خصائص تجعل منها موضوعاً نموذجياً في الدراسة. فهي تتميز بالاستقرار السياسي النسبي الداخلي واستمراريته تحت قيادة حزب البعث في كل من البلدين وبالازدهار المالي (لاسيما بالنسبة للعراق الذي ازدادت وارداته النفطية بشكل كبير جداً خلالها) وبحصول النظامين على دعم كبير من المعسكرين الدوليين في ذات الوقت على الصعيدين المادي والمعنوي.
وهذه العوامل، متظافرة، وفرت فرصة استثنائية لوضع المشروع البعثي للتطور موضع التطبيق العملي بعد ان كان مجرد وعد وشعار. وبالتالي اصبح من الممكن الحكم عليه موضوعياً، وعلى ضوء النتائج الملموسة، بعيداً عن التكهنات ومحاكمة النوايا. خصوصاً وان النظامين راحا في نهاية السبعينات، يتباهيان بالتطور الذي تحقق تحت قيادتهما حتى ان قيادة نظام البعث العراقي صارت تزعم بان"النموذج البعثي"للتطور الذي حققته يستحق ان يكون مثالاً يقتدى به بالنسبة لبلدان العالم الثالث الاخرى، بل وراحت تدعي بان العراق مدين لمشروعها بكل شيء تقريباً.
ان الاستنتاج النهائي الذي يخرج به سمير أمين من تحليل التجربة الاقتصادية التي قادها نظام البعث يثبت ان الحقيقة مغايرة كلياً لمزاعم الانظمة البعثية. بلا شك لديه ان المشروع البعثي للتطور، اذا أخذناه كمجرد مشروع مكتوب على الورق، وتجاوزنا هلامية الكثير من مبادئه المركزية، يمثل وعداً مغرياً لاسيما وانه طرح نفسه دائماً كمشروع قومي وطني اشتراكي وتحرري. الا ان هذا الوعد ليس إلا وهماً لأن الطرح المذكور لم يتجاوز عملياً بعده اللفظي. ففي الواقع العملي وعلى ضوء التجربة التاريخية المحققة فان المشروع البعثي للتطور ليس الا المشروع الأكمل والأسرع في بعثرة امكانيات التطور الفعلية والكامنة لدى البلدين، وبالتالي في تدمير أي نزوع شعبي نحو تحقيق الاستقلال الوطني والتقدم الاقتصادي والتحرر والسير الفعلي نحو الاشتراكية.
بعبارة اخرى ان هذا المشروع لم يكن، منذ بدايته- سوى الطريق الأقصر نحو اقامة نظام"رأسمالية المحيط"، التابع كلياً للمركز الرأسمالي الغربي. اما الدعم السوفيتي الفعلي فلا يصبح موجهاً سوى للمساعدة في تحقيق ذلك لانه لم يكن في حقيقته إلا دعماً للانظمة ذاتها المكلفة بقيادة هذه السيرورة، وبالتالي فقد ساهم مباشرة في ضمان تحققها.