يوميات وطن قيد الاحتلال زهير الجزائري وحرب العاجز

Wednesday 26th of December 2018 06:53:47 PM ,

عراقيون ,

فاطمة المحسن
يعلمني التاريخ الاستخفاف بالآلام باعتبارها صرخات الزمن الدائمة. فقد حدث هذا الخراب مرارا ونهضت بغداد من حرائقها، ويخيفني التاريخ الذي يقول لي : لِمَ كل هذا الصراخ والقلق، سيذُكر كل هذا الذي عشته ببضع جمل في كتاب. هذا ما يكتبه زهير الجزائري في يوميات عودته الى العراق كي يستيقظ من الكابوس.ولكن نصه الجديد (حرب العاجز / سيرة عائد، سيرة بلد) لا يستثني التاريخ من فوضاه،وهذا ما يستثير الفزع والتطير في نصه.

يدخل الجزائري العراق مع كاميرا تلفزيون العربية، وتبقى العين تتبعه الى ان يختفي بين أهله ودموعهم وصراخهم. تلك اللحظات الحميمية تصبح ملكا للناس وشهادة على ما لا يوصف على ورق أو يسجل في مفكرة، فهناك فجوات تتسرب منها الشهقات وإغماضة العين، رائحة عبرت في رأس من وطأ ارضه بعد غياب،ضوء يمس الجلد، فيخاله المرء لمسة تحية. التجوال في الصحو والنوم، الحقيقة والوهم، يبقى هو زاد الغائبين عن وطن ومنفى معا.
زهير الجزائري الذي عاد الى العراق ولم يغادره، يسجل يوميات الفراق والعودة معا، حيث يصبح الوطن غير ما هو عليه، مزيجا من الحب والعلقم.وحالما يصل أرض العراق، يقول هي أرضي ويسمي الذين سكنوها منذ زمن غابر جدودي، كمن يعوض عن يتم طويل عاشه. وكأنما يصبح للسن أحكامه وهو يرى ويسمع ويؤل من الحكايا التي تتداخل فيها ذاكراته مع حوادث سمعها او قصت عليه، ينسى الفرق بين وطن متخيل وآخر يوقظ حلما استغرق ربع قرن.
سنجد الكثير من الكتب التي دونت تواريخ عودة المهاجرين، وحتى تلك التي استغرقت يوما واحدا كما فعل شوقي عبد الامير، ولكن كتاب الجزائري يشمل مرحلة امتدت من 2003 الى سنة مضت. وسيكون لهذا الزمن في نصه، طيات وتلافيف يعبر فيها الأوقات في لحظات تلد الاخرى.
كتاب الجزائري يحاول التوفيق بين مهمتين، رسم صورة الحقيقة التي ستصبح تاريخا، وهذا مطلب الأفكار والمعلومات،وتحديد الملامح الغائمة بين طوايا الأنفس والرغبات، وهذا مطلب الفن،ولكن تلك الأميال التي يقطعها بين الاثنين، ترسم صورة الأنا وهي تستعد لتعرض نفسها أمام القارئ، مواقفها، تصوراتها، انطباعاتها،وفي هذا الحيز يختلط التسجيل بالرواية. فعملية الانتقاء للذكريات، هي إعادة ترتيب وبرمجة لإزالة نوافلها، ثم تأتي العملية الثانية في تثبيت الأصلح منها.
في خطاب الذكريات ثمة مجال للتنفيس عن القصصي القابع في اهاب كل كاتب، فكيف اذا كانت مهنة الكاتب في الأصل هي احتراف القصص. أن نتاجا أدبيا يتشكل اليوم من قصص العراق، ولا فرق بين تلك الذكريات التي يسجلها العائدون، او الذين مكثوا فيه او الذين لا يريدون العودة اليه، وحتى الذين كتبوا عن اماكنهم البديلة، ثمة فجوات يمسكها القارئ في ما تجاهله الكاتب عن وطنه.
ومن يقرأ ما سجله زهير الجزائري عن يوميات العراق، يخيل اليه ان الكاتب ذهب هناك كي يحرر ذاته من الذكريات، كي يكتب عن أخيه الذي طحنته أولى الحروب، وهو لم يتخط بعد عشريناته، وعن أمه التي ما قبلت ان تنسى فجيعتها، ماتت وهي تودع ابنتها الشابة التي شهدت لحظات احتضارها.
يدخل غرفة أمه وينام في سريرها: ((وأنا نائم في فراشها أتحسس خشب السرير كما عظامها، أمد يدي وقدمي حتى حافات السرير باحثا عنها وأتنفس على إيقاع أنفاسها. تتسارع الانفاس وتتباطأ على ايقاع هواجسنا نحن الاثنين. حين نمت أتت واقفة عند حافة السرير صامتة، تريد أن تقول شيئا أوشك أن اعرفه)). ثمة ثبات في تلك النقطة التي عاد اليها الكاتب،فهو مدون وروائي شاء أم أبى، ومن خلال المهمتين، يعاين المؤلف ضمير المتكلم بقدر من الدهشة، هل فعلت كل هذا، وهل طاوعتني نفسي كي تكون في الموقع الذي أردتها.
لعل مذكرات العائدين تصبح سجلات ثرية لأزمنة كتّابها، وهذا يمنحها قيمة العمل المختبري، فهي تطهير من خطيئة الفقدان، وهي تصعيد لألم الاستعادة، وهي تخييل للحقائق والأوطان، فليست التصورات التي يعثر عليها الكاتب هي نفسها التي تصل القارئ، بل ما يكمن خلفها من ملاحظات غير مباشرة.
ذكريات من هكذا نوع تلغي من سجلاتها ما هو عابر وعادي في الحياة، ومن هنا يتشكل نقصها،وذاكرة زهير في اختياراتها بدت اقرب الى اخباريات الحياة نفسها : الرجل الذي اختفى داخل حفرة، والخطف والتصفيات الطائفية، وثقافة العنف، والانتخابات، دبابات الاحتلال وهي تسحق الشوارع وتثير فزع الناس،والحواسم والطيبون والمحتالون والحرامية والامهات،ورفيقات الجامعة، وأيام حرية المرأة وعبوديتها.
ولو لم يكن الكاتب معلقاً او معقباً على كل حدث صادفه او سمعه،لكانت للأحداث معان ربما لا تختلف عن التي قيلت، ولكن حرية القارئ ستكون أكبر في تفسيرها. وتلك مشكلة لا تقتصر على هذا الكتاب، بل تعاني كل كتب الذكريات من رقابة يفرضها كتابها على كل حدث، ولعل دور المثقف او المعقب الصحافي او صاحب الرأي والمتأمل، تصبح من بين تلك الموجبات التي لا بد ان تحدد هوية الكتابة نفسها.
يدخل زهير الجزائري الى مدينة أهله، النجف التي نشأ بها صبيا قبل انتقال العائلة الى بغداد. فيجد نفسه وسط كون من التناقضات،وينتبه الى ان الفقراء والاثرياء فيها يتشابهون في حجب حقيقة فقرهم وغناهم، فالفقراء يكابرون بالمظاهر الزائفة والاغنياء يبعدون شبه الغنى عنهم : ((مثلي تتغذى المدينة وترتوي بالكلام، وتغذّي بالكلام أتباعها المنتشرين في كل أنحاء العالم، ولديها سلطة الروح في مقابل سلطة السلطة في بغداد.
أعود الى مدينتي النجف وجلا من ثلاثة مخاوف بانتظاري : النسيان واللوم
والموت)).ويضيع وسط المدينة التي بالكاد يعرفها، فلم يجد نزلا يأويه، ولا أهلا في استقباله، فيتخذ فندقا للغرباء كي يبيت ليلته ((حتى ابن عمي الذي تعّرفت عليه مصادفة وهو يدير الفندق، لم يلمني على السكن في فندق، فالمدينة باتت كلها نزلا للغرباء.)).
وجد الجزائري في جريدة”المدى”التي اصبح رئيس تحريرها،صحبة العائلة الثقافية، استرجع اصدقاءه القدامى،وبدأ الادباء يبحثون فيها عن كلمة جديدة. شهدت”المدى”عاصفة كوبونات النفط، حيث نشرت وثائق مديرية الامن العامة، فطار اسمها بين عواصم الارض، وبدأ السفراء يقصدون الجريدة للاستفسار عن الاسماء الكبيرة التي قبضت، ويسأل زهير سفيرا من بلد أوربي ((هل فوجئ بنشر اسماء سياسيين من بلده، ومنهم وزير داخلية سابق، فقال على العكس فوجئت بغياب أسماء كنت أعرف أنها قبضت. وسألني هل هناك من قائمة أخرى.)).
يبقى العراق كما يقول الجزائري تأريخا سيكتبه الآتون، فالفرط ما انتظر أهلوه حياة بعيدة التحقق، تصبح ايامه كتابا مفتوحا، كل يوم يُسجل فيه سطر جديد.