رواية زهير الجزائري الخائف والمخيف شخصيات مضطربة في واقع قاس

Wednesday 26th of December 2018 06:56:50 PM ,

عراقيون ,

د. باسم عبود الياسري
إن القارئ الذي يتعامل مع الكتاب بشكل مستمر قادر على أن يجد لنفسه مكاناً في خارطة القارئ والكاتب والمقروء بينهما، فهو يرفض أن يكون قارئاً سلبياً متلقياً فقط لا قدرة له على التحليل أو الرفض والقبول، فالقارئ الحقيقي هو من يرى نفسه منتجاً جديداً للنص وهو يقرأه، فهو وفق رؤيته المبنية على نص المؤلف وبالتفاعل مع معطيات إدراكه يتحول فعل القراءة الى انتاج جديد ثقافة جديدة من هذا التلاقح بين النص وقارئه.

تبدأ علاقة القارئ بالنص من خلال العنوان، فلاشك أن عنوان الرواية هو مدخلها الأول الى عالمها الداخلي، لذا فالمؤلف يختاره بعناية كبيرة فهي أسمها الذي سيرافقها فيحرص على أن يكون اسماً موحياً بما تحويه الرواية من رسالة تأتي الى المستلم (القارئ) على شكل سرد يختار هو تقنياته بعد أن وضع أسسه الأولى في ذاكرته.
في رواية”الخائف والمخيف”للروائي زهير الجزائري الصادرة عن دار المدى عام 2003 يضع المؤلف هذا العنوان إعلاناً عن موقف محدد من العالم ليعلن صراحة عن موت جمهورية الخوف الذي تغلغل في نفوسنا وهو بعمله هذا إنما يحاول درء هذا الخوف والبحث عن بؤر سعادة تجعل للحياة معنى.
إن الأديب الذي أنفق عمره يبني وعيه لاشك أنه أكثر حساسية ورهافة من غيره، وهذا ما يسلمه الى مصادر خوف أكثر مما يدركها غيره0(وليد) أحد أبطال العمل الذي يتملكه الخوف حتى في اختيار طريقة كتابته، أما (وهاب) فهو أحد رجال السلطة يحاول فلسفة الخوف، فهو من خلال عمله يرى أن الذي يحمل بذرة الحب لا خوف منه، فهو حريص على إرضاء المحب وعدم الإساءة إليه وبالنتيجة فهو بعيد عن روح العداء والإيذاء للآخرين لأنه يحمل من الرقة ما يمنعه عن ذلك (إن الخوف أكثر دواماً من الحب لان المحبين يترددون في الإساءة إلى المحبوب ويترددون في الإساءة للمخيف).

إن الخوف التلبس بالخوف حين يسري في نفوسنا يؤثر فينا الى الدرجة التي يكتم فيها صرخاتنا ويجبرنا على تحمل الألم وعدم التأوه مما نشعر به لا رضى به، وإنما خوفا من عواقب إطلاق الصرخة التي ستمزق حاجز الصمت المشبع بالخوف.

يعمد الكاتب في روايته الى مستويات متعددة في السرد، فمرة يكون بضمير الغائب ومرة يكون (وليد) مستوى آخر للسرد، وكأن الكاتب يفصح على لسان الغائب ما يتردد وليد في الإفصاح عنه أو العكس، ومرة يأتي الأسلوب عن طريق التعبير عن شخصية (قاسم فنجان) الشاعر الذي قتلته الحرب فتركه يتحدث عن طريق أوراق تركها بعده0 أنها وسائل متعددة للتعبير عن مديات أوسع يشيد الروائي بها ومن خلالها عمارة وبناء الرواية0 وهذه الأساليب المتعددة ستجعل القص يتردد بعدة أساليب تخدم الخط الرئيس للسرد0 في الرواية حكايات كثيرة تروى بهذه الطريقة فتجعل القارئ أكثر قدرة على تكوين رأي خاص به، لابتعاد النظرة الأبوية في السرد، فـ(صبيحة الداكوكة) مثلاً وعالمها المليء برجال رسموا لها أحلاماً زائفة دون أن يحققوها، وحكايات وليد ومعاناته، وحكايات(الحنطة المسمومة)، وحكايات (ياسمين) وحكايات(الحرب) وغيرها الكثير من الحكايات الأخرى، إنما تمنح الرواية ثراء وسعة تجعلها تقترب من الحياة.

لا يعمد زهير الجزائري الى حدث مركزي يتكون وينمو في نفس تصاعدي مع تقدم الأحداث، وإنما لجأ الى التناوب في السرد الذي يجعل من الرواية مليئة بالأحداث التي تشكل بمجموعها حياة خاصة أرادها المؤلف0 لقد وظف المؤلف كل امكاناته في هذا الاتجاه حتى (الحلم) كان أحد تلك الحكايات التي أغنت الرواية، وهل الحلم إلا امتداد للواقع؟ ومن خلال ذلك يضع الروائي زهير الجزائري بين يدي القارئ الصراعات بين السلطة والناس يحاول التعبير عنها للدلالة على انفصام السلطة عن الشعب باختلاف الهموم وتغير الأولويات بين الأثنين.

لأن في كل رواية لابد للكاتب نصيب فإن شخصية (وليد) تقترب كثيراً من شخصية الروائي (زهير) نفسه، في إدراكه للواقع الثقافي يقابله فهم قاصر للثقافة من قبل السلطة0 يندفع الروائي للكتابة وفق فهم يقوم على إحساس نبيل بقيمة ووظيفة الكتابة وإن تحولت هذه الكتابة الى هاجس مخيف حد الموت، لقد كان (خائفاً من هاجس الكتابة الذي سيقتله)0 إن فعل الكتابة لا يتحقق بيسر وسهولة وإنما يأتي متوتراً قلقاً مثل حال الروائي نفسه، إنه أشبه بصرخة تمزق حجب الحقيقة هكذا يفه الكتابة : (بها سأبدا الرواية: صرخة غامضة مزقت الليل وايقظت هواجس الناس المخبأة ثم انطفأت)، وهكذا يبدو التداخل واضحاً بين نص الروائي مع نص بطله (وليد).
يتناول الكاتب موضوع (السفاح ـ ابو طبر) فيحاول من خلاله تحليل الواقع من حدث واقعي حدث في الماضي ليترك دلالاته على المستقبل، حين تبدو تلك الجرائم كما لو ان لها رسالة غير مفهومة في حينها فتبدو تلك الجرائم بلا دوافع (دقة التفاصيل هي التي أوحت لوليد بصورة القاتل الذي يصف جرائمه في صحف اليوم الثاني باعتبارها فصولاً من رواية يعرف مقدماً نهايتها.. ولذلك ترك الضحايا في روايته وتابع القاتل. فقد شغلته تماماً الرسالة التي اعتاد ان يتركها في مكان القتلة: لم اقتل من اجل القتل، ولست متعطشاً للدم وليست هناك ضغائن شخصية على المقتولين، انما اردت ان ابلغ الآخرين من خلالهم رسالة ستظهر فيما بعد..) وتحت الرسالة المطبوعة بخط عريض توقيع القاتل على شكل علامة استفهام نقطتها دم..)، إن القارئ يقع أحياناً في لبس بين شخصية مؤلف الرواية وبطله وليد وهو ما يريده الروائي.

يحاول الجزائري في روايته أن لا يسمي الأشياء بمسمياتها فهو لا يريد أن يختزل معاناة القهر والإذلال التي يعيشها الفرد العراقي في أشخاص وأماكن محددة، لذا فكان المكان في الرواية غير واضح المعالم تماماً مثل ملامح شخوص الحدث.

عندي أن شخصية الأديب والمبدع لابد أن لا تكون مستقرة بسبب استمرار نموها وتطورها مع الزمن، فضلاً عن هذا التردد الذي يكتنف الشخصية المثقفة التي تمثل جزءً من سماتها فالمثقف متردد قلق لكثرة حساباته ورهافته فلا يكون حازماً مثل عسكري، وإنما يفتح عقله وقلبه ليجعله قابلاً للتغيير نحو آفاق أرحب، وتلك هي ملامح شخصية وليد في العمل.

يقترب الروائي الجزائري من أبطاله الذين يحملون الأمل والنقاء أكثر من غيرهم، فهذا (قاسم فنجان) يطل علينا بين وقت وآخر، وكأنه موجود من خلال رسائله وأوراقه التي تركها رغم أن الحرب ابتلعته، فقتل وهو يحلم بياسمين (مكاني، الحرب عاشقتي الولهانة.. مشطت في الليل شعرها الاسود الممتد على طول خنادقنا، وملأت ليلنا بالرصاصات الخُلبية) التي لم تعد تفكر به.

بناء الشخصية في الرواية كان بناءً محسوباً، فالشخصية القمعية لابد أن يستكمل رسمها في جعلها نزقة مع شعور طاغ بالتفوق (الجسدي) على الآخر، تحمل مظهر من القوة الغاشمة لا القوة النزيهة بمعنى البطولة، وهكذا نجد (وهاب) يعيش هذا الوهم بالقوة، حتى أن السياسة عنده تأتي بعد الحظ في إشارة الى كونه طارئاً على السياسي، ومن خلال عمله ينظر الى الأمور فهو يرى (ان الزمن لا يرحم، لذلك ينبغي الرد على الفور مستخدماً العنف كرد سريع وأحياناً قبل ان تقع الواقعة (فكان) لا يعرف غير العنف وسيلة لاثبات هذا الاخلاص).

أما (يعقوب) مدير الأمن الذي يخافه الآخرون، فهو في حقيقة أمره خائف ايضاً، بعد ان طلع على سر (القصص) الكثيرة حول محاولات اغتياله (بحبة زئبق تدس بين الحبوب المنشطة التي يقدمها الطبيب الخاص، الابرة المسمومة في الفراش تدسها واجدة من المرشحات لسريره)، إنه عالم مليء بالدسائس، لذا نراه يحاول التخلص من هذا الخوف والجبروت الفارغ فيسارع الى مكان يلجأ إليه كلما أراد التنفيس عن نفسه، إنه يحن الى عالمه الحقيقي فيجد نفسه في بيت خالته يتصرف على حقيقته يقول ما يشاء ويشتم من يشاء، إنها محاولة العودة الى الطفولة التي تمثل النقاء وقد باتت بعيدة عنه بعد أن انسلخ عن آدميته بعمله هذا.
تظل (ياسمين) تذكرنا بهذا النوع من النساء اللواتي حاولن الفوز بشيء فخسرن كل شيء حتى تحولت الى خليلة من حقها اللهو في السر وعدم الإنجاب، موظفة مرموقة عند وزير عرف بعلاقاته النسائية، ففقدت الزوج والكرامة والحب الطاهر وقيمة الحياة الشريفة مقابل مكاسب آنية فضيحتها اكبر من نفعها.
رواية، روايتان، عشر، هل تكفي لنتحدث عما جرى خلال العقود الأخيرة من عمر العراق وعمرنا معاً، يحاول الجزائري أن يحكي لنا كيف كانت السلطة تتعامل مع خصومها، وأي أدب يستطيع أن يرقى بالقارئ ليتلمس جراحنا غير المندملة وصرخاتنا المكتومة؟ عندي أن المبدعين العراقيين لا يمكن أن ينتجوا أدباً خالصاً عن تلك الفترة في مثل هذه الظروف إلا بعد هضم الواقع الحالي الذي لم يستقر للأسف للآن، فالسياسة لم تكن جزءً محورياً من حياتنا وإنما كانت هي حياتنا، أو قل هي التي تفسد حياتنا شئنا أم أبينا، حتى أولئك الذين غادروا العراق والجزائري منهم لم يكن العراق يغيب عن بالهم كانوا يتمثلونه كل لحظة.
وبعد الذي جرى لا يمكن للكاتب أن يكون موضوعياً بينه وبين جلاديه، فكانت تلك الرواية صراخ في ليل العراق الطويل.