في 4 كانون الثاني 1923 ازيح الستار عنه.. تمثال مود ومحاكمة شهيرة

Sunday 6th of January 2019 08:07:24 PM ,

ذاكرة عراقية ,

اعداد : ذاكرة عراقية
في مساء 18 تشرين الثاني 1917 لفظ الجنرال ستانلي مود قائد الجيش البريطاني في العراق وفاتح بغداد أنفاسه الأخيرة. وكان مود قد حضر مساء 14 منه حفلة في مدرسة الاليانس أقامتها الطائفة اليهودية في بغداد لتقديم الشكر له وتكريمه، وفيها شرب قهوة ممزوجة بالحليب البارد غير المغلي. وفي صباح اليوم التالي شعر القائد الإنكليزي بتوعك صحته، وتبين انه مصابا بالكوليرا، وادى ذلك الى وفاته بعد أيام التي أثارت الكثير من الشائعات والهمس بين الناس.

وتألفت في بغداد لجنة من عدد من تجارها من مختلف الأديان لجمع التبرعات لإقامة تمثال لمود يخلد ذكراه، ثم توقف الأمر لسنوات قبل الإعلان عن إنجاز التمثال. وفي مثل هذا اليوم من عام 1923 جرى الاحتفال بإزاحة الستار عن تمثال مود وهو يعتلي صهوة جواده، وقد وضع التمثال على قاعدة كبيرة أمام دائرة المندوب السامي في محلة الكريمات في الكرخ وقد أصبحت فيما بعد السفارة البريطانية ببغداد. وقد تعددت المطالبات من الجهات الوطنية بإزالة التمثال الذي يمثل الاحتلال وقائده في وسط العاصمة بما لا يتلاءم والاعتبارات السيادية، غير ان السلطة لم تعر الأمر اهتماما، بل قدمت للمحاكمة شاعرا طالب بتحطيم التمثال. وفي صبيحة يوم ثورة 14 تموز 1958 هاجمت الجماهير الغاضبة التمثال وحطمته، وكان ذلك من مشاهد يوم الثورة المثيرة.
محاكمة شهيرة
نشرت جريدة لواء الاستقلال في العدد 146 الصادر في 21 آذار 1947 مذيلة باسم (صقر) وهو الاسم المستعار للدكتور عبد الغني زلزلة فألقي القبض بسببها على صاحب الجريد الأستاذ قاسم حمودي أواخر آذار 1947 متهمة نشر قصيدة ضد تمثال الملك فيصل الأول في حين أن المقصود بالقصيدة هو تمثال القائد الإنجليزي مود وحكمت المحكمة عليه بالحبس لمدة سنة أمضى منها ثلاثة أشهر وأصدر حزب الاستقلال كراساً تضمن سير المحاكمة وكانت صورة غلافة لقطة فوتوغرافية لقاسم حمودي بملابس السجن والسلاسل في يديه،
وسرعان ما تحولت المحاكمة من سياسية إلى سياسية أدبية حيث اختارت المحكمة بعض المحكمين من الشعراء والأدباء بعد طلب قدمه المحامون الأساتذة فائق السامرائي وعبد الرزاق شبيب وحسن علي التكريتي وعبد الرزاق الظاهر، وعند ذلك استمعت المحكمة لإفادات مهمة قدمها الأساتذة:
أحمد المناصفي، محمد رضا الشبيبي، عبد الحسين الزري، محمد مهدي الجواهري، محمود الملاح، مهدي مقلد، محمد بهجة الأثري، الدكتور سليم النعيمي، هاشم عطية، وفي جلسات أخرى قدمت إفادات عدد آخر من علماء العراق وأعلامه أمثال :الشيخ بشري الصقال، الشيخ محمد جواد الجزائري، الدكتور داود الجلبي، الدكتور مصطفى جواد، أكرم أحمد، الشيخ علي الشرقي، السيد منير القاضي، حسين علي الأعظمي، الحاج حمدي الأعظمي، السيد محمد صادق الصدر، السيد صادق الأعرجي، السيد صادق الملائكة، السيد حامد مصطفى. وانتهت محكمة جزاء بغداد في 4 /8/1947 برئاسة السيد عبد العزيز الخياط الحاكم من الدرجة الأولى المأذون بالقضاء من قبل صاحب الجلالة ملك العراق إلى أن القصيدة موضوعة بحث المحاكمة هو تمثال (الجنرال مود) وليس لها أي مساس بتمثال جلالة الملك فيصل الأول وأفرج بعدها عن المتهم قاسم حمودي ورفع الحجز عن جريدته لواء الاستقلال
ونختار هنا افادة الشاهد الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري لاهميتها الادبية والوثائقية.
الحاكم : عمرك؟
الشاهد : 43 سنة.
الحاكم : صنعتك؟
الشاهد : صحافي.
الحاكم : أين تقيم؟
الشاهد : في الكرخ.
محلفاً أفاد :
س – إذا كنتم قد اطلعتم على القصيدة المنشورة في جريدة لواء الاستقلال تحت عنوان"تمثال العبودية"، وهي موضوعة بحث هذه الدعوى فنرجو أن تبينوا لنا القصد الذي ترمي إليه هذه القصيدة؟
ج – أن أطلعت على هذه الأبيات وقرأتها أكثر من مرة وكما أعرف عن قواعد الشعر أن الكناية أبلغ من التصريح، وبموجب هذه القاعدة وجدت هذه الأبيات تكاد تكون صريحة أن المقصود منها هو تمثال الجنرال مود، بحيث لو أن الصراحة فيها تجاوزت هذا الحد لكان الشعر فيها يكاد أن يكون مبتذلاً، فهي بكناياتها وإشاراتها وصفاتها المحددة الواضحة أبلغ مما لو أضيف إليها اسم الجنرال مود، والذي استند إليه في هذا التركيز هو التباهي والتبختر في البيت الأول والذي لا ينطبق أبداً على غير تمثال الجنرال مود، فهو بالبزة العسكرية بزة الفاتحين الذي ينطبق عليه التباهي والتبختر، وفي البيت الثاني الازدراء بالشعب، ولا أعلم كيف يمكن صرف هذا البيت إلى غير تمثال مود، فلا يخطر على بال أحد أن ملكاً للبلاد يمكن أن يزدري بالشعب، والبيت الثالث قيادة جيوش العرب للنصر، وكل التواريخ الحديثة تؤيد أن العرب وجيوشها كانت منضمة إلى الحلفاء وبقيادة موحدة مع القيادة العامة للحلفاء. وإن النصر المقدر لا يفهم منه إلا انتصار الحلفاء على أعدائهم ويوضحها البيت الذي بعده وهو دحر الأعداء. وأما البيت الخامس فهو التاريخ المسطّر مقيداً بأنه تأريخ للأمة، ويراد بها الأمة العربية طبعاً، مما لا يتحدد مع العراق وحده يمكن صرف الشعر إلى جلالة ملك العراق. وأبلغ ما فيها دلالة على أن المقصود هو مود البيت السادس وهو الذي يقول عن التمثال أنه رمز للعبوديات ورمز للحق المعفّر. وأنا بوصفي شاعراً ومواطناً لا أعلم أن هناك تمثال يمكن أن ينطبق عليه هذا غير تمثال مود، وهو أي التمثال الشامخ في الجو متجبراً مما يفهم منه في البيت السابع، وكذلك البيت الثامن وهو آخر الأبيات الذي يقول للتمثال ((أن تكبرت على مجد هوى فالله أكبر)) فهل يجوز من كل الاعتبارات والمقاييس الأدبية وغيرها أن يتكبر ملك البلاد ساهم في إحياء مجدها على هذا المجد، وهل يتكبر على مجد بلاد هوى إلا من يهون عليه ذلك. وهذا مما لا يفهم منه ولا يجوز أن يفهم شيء يدل على غير تمثال الجنرال مود. هذا ما عندي مما فهمته بوضوح وصراحة من هذه الأبيات - وهذه شهادتي.

ومن ابيات هذه القصيدة الذائعة :
لمن التمثال في الكرخ تباهى وتبختر
وازدرى بالشعب فاستعلي عليه وتكبر
المن قاد جيوش العرب للنصر المؤزر
أم لمن قد داس وجه البغي بالنعل وعفر
أم لمن قد صاغ للأمة تاريخاً مسطر
أيها الشامخ في الجو على من تتجبر
أنت رمز للعبوديات والحق المعفر
إن تكبرت على مجد هوى فالله أكبر