كمال السامرائي وحديث الثمانين .. اللحظات الأخيرة في حياة الملكة عالية

Wednesday 9th of January 2019 06:58:12 PM ,

عراقيون ,

كتب الله عليّ ان أعيش في قصر الزهور ببغداد نحواً من ستة أسابيع أعنى فيها بالملكة عالية زوجة الملك غازي التي كانت يومئذ مصابة بمرض عضال لا يرجى شفاؤها منه، ولم أغادر القصر الا بعدما لفظت أنفاسها الأخيرة وهي مرتمية بإعياء على كتفي الأيسر، وقد سمعت وشاهدت أثناء إقامتي بهذا القصر أموراً كثيرة سجلتها بدقة وأمانة كجزء من تاريخ العراق الحديث في تلك الحقبة.

شكت الملكة عالية من أوجاع في بطنها السفلي فسافرت مع أخيها عبد الإله الى لندن بناء على اقتراح أحد الأطباء الإنكليز العاملين في العراق الدكتور (دكسن فرث) وعادت الى بغداد بعد بضعة أسابيع حين ثبت للأطباء الاختصاصين ان مرضها قد استفحل في جوفها وأصاب كل عضو فيه واجتاز مرحلة المعالجة الشافية ولم يبق في وسع الطب والأطباء الا استعمال الحقن لتسكين الآلام المبرحة التي يثيرها ذلك المرض الخبيث، فلا دواء ولا وسيلة أخرى في الطب لإيقاف انتشاره وما يفعله من تخريبات مميتة تنتشر في أجهزة الجسم واحداً إثر الآخر.
في قصر الرحاب فوجئت بخبر مرض الملكة عالية ساعة استدعائي رئيس التشريفات الملكية تحسين قدري الى قصر الرحاب وحين صرت في صالة القصر كان قد سبقني اليها الدكتور هاشم الوتري والدكتور هادي الباجه جي وكان معهما الطبيب الإنكليزي دكسن فرث، وعلمت من الطبيب الأخير انه هو والملكة عالية وأخوها عبد الإله، قد وصلوا تواً الى بغداد، وفي تلك اللحظة ونحن نتحدث عن الملكة دخل عبد الإله الصالة وعليه علامات التعب جراء الرحلة الطويلة بطائرة (الفايكاونت) العراقية.
قال يخاطب دكسن فرث: أرجوك أن تشرح للإخوان مشكلة جلالة الملكة وما يجب أن تفعلوه لأجلها إنها تتألم فأعملوا شيئاً بالله عليكم وسأترككم الآن على أن تطلبوني حين تنتهون من التشاور في أمرها واستدار ليخرج من الصالة وما كاد يصل الباب حتى استدار وخاطبنا جميعاً قائلاً: إن الملكة لا تعرف طبيعة مرضها فاحذروا أن يفلت من لسانكم ما يشير الى ذلك ثم خرج من الصالة وما كاد يوصد بابها من ورائه حتى عاد وهو ينادي كلبه الضخم، الذي لم ينته بعد من شم أذيال سراويلنا واحداً بعد واحد وأخرجه عنوة وهو يسحبه من سلسلته وكان يبدو عليه الاضطراب وهو يستنشق بتلاحق دخان سيكارته.
لم تكن صالة قصر الرحاب التي اجتمعنا فيها توحي بأنها غير اعتيادية ولا هي أفضل من صالات البيوت البغدادية الميسورة الحال، فسعتها معتدلة، وأثاثها مألوف وثمة صورة زيتية حسنة الصنع للملك علي (والد عبد الإله) وأخرى لأخيه الملك فيصل الأول، وبينهما صورة لأبيهما الملك حسين وصورة أخرى كبيرة معلقة على جدار جانبي، تمثل عدداً من كلاب (الهاوند) تطارد إبن آوى وهو يعدو مذعوراً أمامها ومن وراء الكلاب جمهرة من الفرسان على ظهور الخيل، وتملأ معظم الجانب الأيسر من الصالة خزانة كبيرة صفت على رفوفها كتب عرفت من بينها الموسوعة البريطانية ذات الغلاف الجلدي الثمين والى جانب الخزانة صندوق خشبي جميل الصنع رفع غطاؤه فبانت في عمقه قناني المشروبات المختلفة.لم يطل النقاش في موضوع الملكة المريضة فعلتها قد شخصت في لندن لذلك أقتصر نقاشنا على ما يجب ان نعمله لراحتها وتخفيف الآلام التي لا تنفك تداهمها بقسوة، كما نسب في هذا الاجتماع ان أكون (أنا) دوماً في قصر الزهور حيث تسكن الملكة المريضة لألبي طلباتها العاجلة.
لم أكن حتى ذلك اليوم قد رأيت الملكة المريضة وكلما عرفته عنها وعن مرضها كان نقلاً إليّ من الدكتور دكسن فرث، وفي اليوم التالي أتصل بي هذا الطبيب وحدد موعداً ليأخذني الى الملكة في قصر الزهور ويقدمني إليها كطبيب خلفاً له بعد ان يغادر الى لندن بعد يومين، كانت الساعة الرابعة بعد الظهر حينما وجدت الدكتور دكسن فرث ينتظرني عند جسر الخر من طرفه الثاني وحين تبعته الى المنعطف الذي يؤدي الى قصر الزهور أوقفني رجل بهيئة فلاح وطلب مني ان اسلك الطريق الأيمن لأصل الى المدخل الخلفي للقصر وهو إجراء حدث بعد عودة الملكة من لندن لإبعاد أصوات السيارات التي تصل الى باب القصر الرئيس او تغادره عن مخدع الملكة المريضة الذي يقع فوق المدخل الرئيس لقصر الزهور، وقد ظهر لي القصر وأنا أدرج في هذا الطريق بسقوفه القرميدية الحمراء وسط غابة تشكو الإهمال والعطش وفي طريقي شاهت بستانياً يعتدل واقفاً في مكانه ليرقب سيارتي وأنا أقودها ببطء، كما شاهدت بستانياً آخر قريباً منه ينحني على حزمة من الأغصان الجافة يلمها بيديه ويرصها بركبتيه على الأرض.وحين وصلت الى الباب الخلفي للقصر وهو المدخل الى مطبخه أيضاً ألفيت الدكتور دكسن فرث في انتظاري فلما صرت الى جانبه تقدمي بخطى بطيئة الى داخل القصر لنجتاز صالة صغيرة صفت على جوانب ثلاثة منها أرائك بدا لي قماشها باهتاً او عتيقاً، وفي وسط هذه الصالة طاولة مستديرة عليها وعاء بلوري مليء بزهور طرية، ولما اجتزنا هذه الصالة دخلنا دهليزاً قليل الإضاءة تنفذ الى جانبه الأيسر أبواب ثلاث غير متقاربة ومن جانبه الأيمن باب وسيعة عرفت بعدئذ انها الباب التي تنفتح على قاعة العرش.مقابلة الملكة المريضةلقد بدا لي مشاهدته الى الآن من قصر الزهور كئيباً او مهجوراً، فلم أرَ في الصالة التي اجتزناها ولا في الممر من يقودنا الى السلم الذي يوصلنا الى الطابق الثاني من القصر حيث حجرة الملكة المريضة، وبدا لي ان الدكتور دكسن فرث كان يعرف طريقه الى الملكة مثلما كان يعرف الطريق الذي يجب ان يسلكه الى المدخل الخلفي للقصر دون إرشاداً من أحد، فقد تقدمني بثقة الى السلم العريض المرمري المقابل للمدخل الرئيسي للقصر وعلى ناصية السلم العليا صورة الملك فيصل الثاني في صباه والى جانبه الكلب الضخم الذي رأيته قبل يوم في قصر الرحاب، كانت حجرة الملكة عالية على يسار نهاية السلم وكان بابها مغلقاً الا قليلاً ولما نقر الدكتور دكسن فرث على الباب بأصبعه طلعت علينا سيدة ملونة في عقدها الرابع أو الخامس من العمر ووسعت لنا فرجة الباب وهي تقول بلهجة لا تبدو عراقية.. تفضلوا.

عن كتابه (حديث الثمانين)