الساعات الاخيرة من حياة الزعيم قاسم

Wednesday 6th of February 2019 07:16:55 PM ,

عراقيون ,

ترجمة : حسين الهنداوي
حتى نهاية صباح يوم الجمعة الثامن من شباط 1963 ذاك، كانالزعيم عبد الكريم قاسم قاسم لا يزال صامداً، حيث استطاع العسكريون السبعمائة الموجودون في وزارة الدفاع ان ينظموا مقاومة كفيلة بتعريض الطائرات التي تحاول مهاجمتها الى الخطر. وهنا جاء تدخل المدرعات بمثابة المرحلة الثانية في عملية التمرد، اذ انه هو الذي سيقلب كفة الوضع لصالح الضباط الشباب الذين كانوا قد حضروا للانقلاب بجرأة لكن بشكل عجول جداً في ذات الوقت.

ففي بغداد معسكران كبيران احدهما يعرف باسم «معسكر الرشيد»والآخر باسم «الوشاش»، تتواجد في كل منهما اعداد مهمة من القوات المدرعة. ورغم ان قوات الوشاش اعلنت تأييدها للانقلاب العسكري منذ الدقائق الاولى للتمرد، فانه كان ينبغي الانتظار حتى بداية ما بعد الظهيرة، لكي نرى الدبابات تظهر في شوارع بغداد لتقوم بتطويق وزارة الدفاع من بعيد، وذلك لأن العمليات الجوية للطائرات منعتها من الاقتراب جداً من مباني الوزارة المحاصرة.
وهنا، ومن داخل الوزارة، راح قاسم يحاول التمكن من استقدام القوات المدرعة المرابطة في معسكر الرشيد لتجيء في نجدته، غير انه كان يواجه رفضاً مبطناً من لدن المسؤولين فيها. حيث كان قائد القوات المدرعة في معسكر الرشيد يراوغ زاعماً بانه عاجز عن القيام بشء. لكنهم يقولون اليوم في بغداد ان ضباط المدرعات كانوا يعتقدون منذ 18 كانون الاول 1962، بان قاسم يشك في ولائهم، حيث قام في احد الاجتماعات العسكرية معهم بابراز ورقة مطوية في يده وهو يقول لهم»انني اعرف ان بينكم من يحضر لمؤامرة ولديّ في هذه الورقة اسماؤهم وبعضهم من كبار الضباط..”.
وهكذا، فمنذ ذلك التاريخ، وضباط المدرعات لا يضمرون الا ثقة متأرجحة بقائد الثورة العراقية. اما الضباط الذين لم يتهمهم بشيء فانهم هم ايضاً خذلوه ولم يتحركوا للدفاع عنه في ذلك اليوم حيث كان قاسم بأمس الحاجة لهم.
إسقاط طائرة
ابتداءً من الساعة الخامسة مساءً، اصبحت الطائرات أقل عدداً نتيجة نجاح الدفاعات الجوية الموجودة في وزارة الدفاع باسقاط واحدة منها. فالمقاومة فيها كانت متواصلة بعد، غير ان التعزيزات العسكرية التي اخذت تصل الى المتمردين تزايدت باستمرار. وفي حوالي الساعة السادسة والنصف مساء كانت العاصمة قد شهدت وصول وحدات قادمة من معسكر ثالث اكثر بعداً عن العاصمة. كانت الدبابات المسبوقة بسيارات جيب يجلس فيها عدد من الضباط، تأخُذ مواقعها بشكل بطيء وحذر أول الأمر، ثم بعد برهة تبدأ بدورها بإمطار قذائفها على مباني وزارة الدفاع. ابتداء من هذه اللحظة فقط، اصبح مؤكداً ان قاسم خسر المعركة.
واليوم، بعد عودة الهدوء، فان كل من يحلل عملية الانقلاب مقتنع بأنها اعدت بشكل سيئ وان المتمردين ما كانوا يستطيعون الاطاحة بقاسم لولا الحظ الكبير الذي حالفهم.

اعدم الزعيم عبد الكريم قاسم في قاعة الموسيقى العربية في دار الاذاعة ببغداد، والتي استخدمت كمقر لقادة التمرد ضد نظامه في 8 شباط.
لقد مات قاسم بشجاعة، فقد رفض ان تعصب عينيه، الا انه كان الوحيد، بين الرجال الذين اعدموا معه، الذي كبلت يديه الى بعضهما خلف الظهر. وكانت الكلمات الاخيرة التي اطلقها قبل اعدامه: «انكم تستطيعون قتلي، غير ان اسمي سيظل خالداً في تاريخ الشعب العراقي».
وفي فيلم الاعدام الذي بثه تلفزيون بغداد مساء يوم السبت، التاسع من شباط، (بين فيلمي كارتون امريكيين) نشاهد بالقرب من اجساد قاسم والرجال الثلاثة الآخرين، بعضاً من الآلات الموسيقية الخاصة بفرقة الاذاعة.
لقد سلم قاسم نفسه في الساعة السادسة صباح يوم السبت. لكن اعدامه لم يتم الا في الواحدة والنصف من بعد ظهر ذلك اليوم. وقبل ايقاف القتال، كما طوال كل نهار وليل يوم الجمعة 8 شباط، اشتبك في مواجهات هاتفية عديدة مع قادة «المجلس الوطني للثورة» ولا سيما مع عبد السلام عارف الذي اصبح رئيساً للجمهورية في حكومة الانقلاب العسكري. «بمَ تستطيعون اتهامي؟»كان قاسم يسأله بالحاح، وعارف يكتفي بالجواب «نريد منك ان تستسلم...».
ولقد عرض قاسم ان يسمحوا له بمغادرة العراق طالباً ضمان انتقاله. لكنه، وبمواجهة الرفض الذي قوبل به طلبه، كان يخطط للتسلل الى نهر دجلة، الذي يمر على مقربة من وزارة الدفاع، بأمل التمكن من الوثوب الى قارب سريع يمكنّه من الانتقال الى خارج بغداد. الا ان الوزارة كانت تحت القصف من كل جانب كما ان قوة من الشرطة كانت قد استولت على قاربه أصلاً. وامام استمرار القصف على وزارة الدفاع عادت المجادلات الهاتفية بين قاسم وعارف. فالزعيم قاسم يطلب ان تضمن له حياته وعارف يجيب «وهل ضمنّا حياة فيصل؟»(ويقصد فيصل الثاني ملك العراق الذي قتل في 14 تموز 1958).
وعندما توقف القتال وبدأ المظليون يتوغلون باحتراس داخل وزارة الدفاع بغرض اعتقال قاسم والمجموعة الاخيرة من الاوفياء له، كان قاسم موجوداً في المسجد داخل وزارة الدفاع. غير ان العسكريين المتوغلين لم يقدموا على اعدامه في الحال انما اقتادوه الى دار الاذاعة في بغداد ومعه العقيد فاضل عباس المهداوي (الرئيس السابق لمحكمة الشعب) والعقيد طه الشيخ احمد والرئيس الاول خليل كنعان.

استجواب مأساوي وخاطف
في الاذاعة، بدأ عبد السلام عارف بنفسه استجواب الزعيم قاسم، وكان استجواباً، حسب رواية العديد من الشهود، خاطفاً ومأساوياً في ذات الوقت. فكل ما كان يهم عارف في الاستجواب هو ان ينطق قاسم امامه انه، اي قاسم، «لم يكن القائد الحقيقي لثورة 14 تموز 1958»، وانه «خان الثورة».. وبينما كان المجلس العسكري المجموع على عجل، في احدى قاعات الاذاعة يجهد لتلبيس اعدام قاسم ورفاقه الثلاثة لباساً قانونياً، كان الضباط الصغار يتشاجرون فيما بينهم لنيل»شرف»رئاسة المجموعة التي تتولّى قتل عبد الكريم قاسم. وقد انتهى الامر باختيار عبد المنعم حميد على اساس انه»تعرض الى الاعتقال بأمر من قاسم”.
وفور انطلاق رشقات الرصاص التي اودت بحياة عبد الكريم قاسم والمهداوي وطه الشيخ احمد وخليل كنعان (وكان الأولان جالسان على كرسيين والأخيران واقفان) سارع راديو بغداد الى اعلان نبأ الاعدام حتى قبل ان يذيع نبأ اعتقالهم.. وهنا ايضاً جرى البحث عن شخص يستحق شرف اعلان»موت الطاغية»على الشعب العراقي. وقد جرى في النهاية اختيار بنت الزعيم الطبقجلي. لأن ابيها كان بين الذين حكم عليهم بالاعدام من قبل محكمة الشعب برئاسة العقيد المهداوي، وصادق قاسم آنذاك على قرار الحكم.

جريدة «لوموند»- في 14 شباط 1963/
من جورج هربوز، المبعوث الخاص
لوكالة الانباء الفرنسية في بغداد
بغداد/ 13-2-1963