فترة الستينات ظاهرة عربية عامة ... وإن كانت لها خصوصيات عراقية

Wednesday 27th of February 2019 07:53:11 PM ,

عراقيون ,

فاطمة المحسن
كل من يقرأ نصاً لفاضل العزاوي لا بد ان يراوده السؤال ذاته: من هو فاضل العزاوي، هل هو قاص أم شاعر؟ منظر أم خطيب في تظاهرة؟ هل هو ذاك الذي يحاور نفسه، أم الآخر الذي يتأملها في مرآته مسحوراً؟ هل هو الانا مضخمة ام هو من اولئك المبشرين الذين ان تواضعوا حسبوا انفسهم أدلاء القافلة البشرية؟

لن تجدي نفعاً هذه الاسئلة ان صغناها منفردة من دون محاولة فهم ما تعنيه فاصلة مهمة من فواصل التجديد الشعري في العراق التي سميت بموجة الستينات. ولا يمكن الحديث عن الستينات من دون ان نضع في القلب منها شاعراً مثل فاضل العزاوي، مجدداً راديكالياً تقف عند اسمه كل الاسماء الاخرى مترددة بين اقبال وأدبار على مغامرة حاولت قلب المشهد الثقافي وجهاً على عقب.
الذي اختلف بين حقبتين ثقافيتين في العراق، الستينات وما قبلها، كان في ظاهره لا يمثل نقلة نوعية في حيثيات موقف الشاعر والاديب ازاء مجتمعه، ففكرة الالتزام لم تفارق مثقفي هذا الجيل مثلما شغلت الاجيال التي سبقتهم. ولكن الذي تبدل في الجوهر الحقيقي لهذا الموقف هو فهم المثقف لذاته في تموضعها ضمن مجتمع معين. ويمكننا ان نخوض في تصنيفات منوعة للمرجعيات التي صاغت اصول الثقافة الخمسينية في العراق، والصفات السايكولوجية التي انتجت ما يمكن ان نسميه تقديس الضعف والتواضع في تمثيلات هذه الثقافة وابداعها. في وقت انتجت ثقافة الستينات سايكولوجيا الخيلاء والتعالي، كصفة تدافع بها عن نفسها تلك الكتل الثقافية المنغلقة التي غزت العاصمة من اطراف مختلفة من العراق.
علينا هنا ان لا نمضي بعيداً في تصور حالة تخص العراق وحده في فهمنا ثقافة الستينات، فالستينات ظاهرة عربية توضح بعض ملامحها على يد ادونيس وصحبه، ومن معالمها الابرز صورة الشاعر الممتلئ اعجاباً بنفسه او المبشر والرائي الذي يقود الامة الى درب الصواب، بل هي قبل كل شيء ظاهرة عالمية وصلنا نثارها وبعض فوضاها وتمرداتها وتحدياتها وعبثها. ولكن قبل هذا وذاك، كانت الستينات العراقية اكثر ثقة بالنفس في الاعراب عن مشروع يحاول ان يهمل فكرة شعبية الادب وجماهيريته، بل هي حاولت ان تخلق نخبة ثقافة تتناقل لغتها ومفاهيمها في دائرة ضيقة. وجابهت هذه الحركة تحديات كثيرة في العراق لأسباب بعضها ايديولوجي، والآخر يعود الى ما شاب بعض تطبيقاتها من نبرة مصطنعة وحافلة بالادعاء، الامر الذي أدى الى ردود فعل عنيفة وسمت لغة المدافعين عن حداثة الستينات الى اليوم. نقول ان فهمنا لهذه الظاهرة يجعلنا قادرين على تلمس قماشة تلك الصبوات التي جعلت من قصيدة فاضل العزاوي اشبه بمادة معدنية باردة وصماء، ولكنها تشع بوهج يكهرب محيطها ويحرضه على منازلتها او مجاراتها.
طور شعراء كثيرون من هذا الجيل مشروعهم الشعري، وبعضهم اصبح في مقدمة القافلة، كما الحال مع سركون بولص. ولكن فاضل العزاوي بين كل مجايليه، الاكثر مهارة على تفجير قنابل الحداثة المضيئة، او فرقعاتها الاكثر صخباً ان شئنا ان نبخس حقه. ففاضل العزاوي يمثل حالة ديناميكية لمثقف يتحرك على كل الجبهات، يبحث ويستكشف ويثير الجدل ويبقى في كل هذا صوتاً نستطيع ان نحدد من خلاله اطر وملامح جيله. فكل واحد من زملائه يمكن ان يمثل جانباً من حداثة الستينات، اما فاضل العزاوي فيجمع بشخصه كل حسنات وعطوب وتشوفات مرحلته. على هذا يكتسب الكتاب الذي اصدره حديثاً «الروح الحية: جيل الستينات في العراق» دار المدى اهمية خاصة، كما تثير مادته فضولاً لأنها تجمع الى الذكريات تحليلات فكرية ومناقشات سياسية وتوجيهات وتعليمات وشطحات وتصورات عن الذات والآخر.

اتجاه ادبي ام اتجاهات جمالية؟
من أجل تبلور اوضح لمصطلح الادب الستيني، يرفض العزاوي حصره بحقبة عشرية محددة، ولا يرى فيه اعلاناً عن مدرسة فنية او اتجاهاً ادبياً واحداً، لأن جيل الستينات يمثل اتجاهات جمالية مختلفة. ولكنه يرى فيه حركة تحول في الوعي الفكري والسياسي والاجتماعي، وهذا التحول - حسبما يذكر - كان بمثابة كشف لقصور الحركة التجديدية الادبية الاولى التي بدأت في العراق بعد الحرب العالمية الثانية وانتهت بظهور مدرسة الشعر الحر. لم يعد الصراع في الستينات بين شعر التفعيلة والشعر العمودي، وانما صار يتعلق قبل كل شيء بمحتوى الكتابة ذاتها والمثل التي تتبناها وتدافع عنها والطرق التي تسلكها في الوصول الى قرائها. وفي مقدمة تقسيمه الدور الذي اضطلع به هذا الجيل، يرى العزاوي ان جيل الستينات هو طفل ثورة 14 تموز الذي بلغ سن الوعي بعيوبها في الستينات، اما الرواد - رواد حركة الشعر الحر - فكانوا اباء هذه الثورة الذين بشروا وأوحوا بها.
يقلب العزاوي في هذا الكتاب اوراقه الشخصية ليكشف يوميات مرحلة بأكملها، فمنذ تهريب قصيدته «انني اؤمن بالريح» من معتقله في الحلة الى مجلة «الآداب» في العام 1964، يصوغ العزاوي فكرة النص المنقذ للروح من سجنها. ولعل تأمله في هذا الامر اجمل مدخل لكتابه، ولتقييم مرحلته التي تواشج فيها السياسي بالثقافي. ثم يعبر منها الى فكرة الجلاد والضحية، وتقديس امثولة الاستشهاد في الذاكرة العراقية. ويدخل في تحليل مستفيض حول سلطة الثورة والثوار وزعامة العسكر وسياسة الانقلابات، والصراع بين الاحزاب والقوى المتناحرة من اجل السيطرة على الشارع، الى غيره من مواضيع اثقلت مادته بالاستطرادات والتحليلات السياسية التي كان من الممكن اختصارها ليبدو الكتاب على درجة اكبر من التماسك.
وفي عودة الى المرحلة التي سبقت الستينات التي يسمى روادها «ابناء الشعب»، يمر في عرض تاريخي على الاسماء البارزة فيها من شعراء وفنانين وقصاصين، وهي المرحلة التي شهدت انتقاله من كركوك الى بغداد. وهنا يدخل العزاوي في محاولة لتطبيق مفاهيم ما بعد الحداثة العالمية التي اصبحت شاغل ثقافة اليوم على تلك المراحل. ويرى ان بامكانه العثور على عناصر «ما بعد حداثية» في أدب الرواد، منطلقاً من ارتباط الحداثة بالنقد بكل عناصره. ويرى تجليها في استخدام السياب للاسطورة، ونقد الحضارة والمدينة عند بلند الحيدري، والعاطفة الحسية عند الملائكة، والرمزية عند البياتي، والصورة اليومية عند سعدي يوسف.
ويؤكد بأن الستينيين العراقيين بدأوا من الضفة الاخرى: اكتشاف قيمة الميتافيزيقيا، الايروتيكية التي تحقق الصدمة او الدهشة، الاستبطان الداخلي، الكتابة الآلية، الحلمية، الواقعية المفتوحة. وفي السياسة الدعوة الى الحرية السياسية والفكرية والاجتماعية. وعند هذا الامر يؤكد العزاوي افتراق جيلهم عن ممثلي الحداثة اللبنانية وتيار مجلة «شعر» التي يرفض الاقرار بتأثيرها في حركتهم. فمشروع يوسف الخال وادونيس وأنسي الحاج وشوقي ابي شقرا ظل حتى النهاية اسير فهمه «الادبي» الخالص للشعر، اي ان هذه الموجة - كما يقول - لم تكتشف الصلة بين الحداثة الشعرية والحداثة بأفقها التاريخي العام كانتقالة تحررية كبرى من زمن الى زمن.
لم تكن تنقص هؤلاء، كما يؤكد، الرؤية السياسية والاجتماعية فحسب، وانما الرؤية الفكرية والفلسفية الكاشفة للجوهر الشعري في الحياة. وهو في هذه النظرة يتطابق مع طروحات سامي مهدي في كتابه عن الموجة الستينية «الموجة الصاخبة» وان لم يجعل اصحاب مجلة «شعر» عملاء للاستعمار كما فعل مهدي في كتابه «حداثة النمط». كما يتفق العزاوي مع طروحات عبدالقادر الجنابي في كتابه «انفرادات الشعر العراقي الجديد»... والجمع ينطلق من ان هذه الموجة خالصة في اصالتها.
ولعل من باب اولى ان نذكّر القارى بأن ادونيس بين المثقفين العرب القلائل الذين ناقشوا في وقت مبكر مشروع ما يسمى بـ «حركة التحرر العربية»، وتوجه بالنقد الى المرحلة الناصرية والى الاشكالية التي تسم السلطات التي تتلبس لبوساً شعبية وتنهج نهجاً ديكتاتورياً. كما تحدث ايضاً عن موقف المثقف واستقلاليته، ولعل فكرة «سلطة المثقف» من ابتكارات ادونيس العربية، وهو مبحث العزاوي الذي يفرد له جزءاً مهماً من كتابه. اما كتاب ادونيس الاكثر شهرة «الثابت والمتحول» فيخوض في الاشكالية الفكرية لمجمل الثقافة العربية. وهنا يمكننا ان نمسك المدخل الاهم لريادة ادونيس وتأثيراته العميقة في كل الثقافة العربية. ربما لم يكن لمجموعة مجلة «شعر» الاخرى من تأثير على الادب العراقي الستيني، ولكن من الصعب تناسي تأثيرات ادونيس شعراً وتنظيراً، مع ان الثقافة العراقية اكثر ميلاً لتمثل الحداثة الانكليزية منها الى الفرنسية.
كان للحركة الشعرية الستينية في العراق من دون شك ملامحها الخاصة، وكان معظم الخائضين في غمارها من الذين رافقت تجاربهم الادبية معاناة سياسية. ولأنهم كانوا على موعد مع السجون والقمع والاضطهاد، اضحوا اكثر صلة بمفهوم المثقف العضوي الذي تحدث عنه غرامشي. وانعكست في ابداعاتهم تجارب المجابهة بين السلطة والفرد الاعزل، كما انعكس صوت الجماعة فيها ايضاً. ولم يتح لهم الوقت فسحة ديموقراطية للتثبت من حقيقة افكارهم، ولفتح ابواب النقاش الفكري في اتجاهاته المختلفة. فالستينات كانت فترة خاطفة بوغتت بتحولات سريعة في مجمل الحياة العراقية بعد ازدهار المرحلة النفطية المفاجئة في العراق، وكان لا بد ان يتمخض المشهد الثقافي على مدى عقدين حاسمين من عمر العراق عن تغيرات خطيرة.
بين الملاحق المهمة المضافة الى الكتاب، ملحق «اصدقاء السوء» الذي يروي فيه العزاوي ذكرياته عن مجموعة كركوك الادبية التي تكونت منه ومؤيد الراوي وأنور الغساني وجليل القيسي وسركون بولص وجان دمو وعمران القيسي وصلاح فائق وزهدي الداوودي والقس الشاعر الاب يوسف سعيد وغيرهم، وسنجد في الجانب الاهم منه مخاض التغيرات الثقافية التي اعقبت العام 1958 في المدن العراقية البعيدة عن العاصـمة، وهي التي رفدت العاصمة بالدم الجديد الذي شكل عصب الثقافة الستينية. اتاحت الثورة لابناء الفقراء فرصة استعادة الثقة بالنفس التي سلبتها منهم فترة ابناء الذوات مع ان ممهداتها بدأت في الاربعينات بصعود المد اليساري في العراق، الا ان الثقافة الستينية هي حقاً نتاج وصول الفـئات والشرائح الفقيرة الى دائرة الضوء، مثلما هي نتاج هزيمة الفرد والجموع في احلامها الثورية والاستعاضة عنها بانتصار الذات في خيالاتها الجامحة.