بـاب الـطّـلـسـم .. ما تبقى الّا الصور النادرة

Sunday 3rd of March 2019 07:27:58 PM ,

ذاكرة عراقية ,

د . صباح الناصري
بـاب الـطّـلـسـم ثـالـث أبـواب الـجـانـب الـشّـرقي مـن سـور بـغـداد (جـانـب الـرّصـافـة). وكـان في الـحـقـيـقـة بـرجـاً شـبـه دائـري كـمـا نـراه في رسـم طـبـاعي أو في صـورة فـوتـوغـرافـيـة مـن عـام 1908 ،ويـنـفـتـح عـلى داخـل الـمـديـنـة بـواجـهـة عـالـيـة في أسـفـلـهـا بـاب عـقـد أعـلاه بـالـحـجـر وكُـسـر تـقـويـسـه قـلـيـلاً في وسـطـه.

ونـلاحـظ في الـرّسـوم والـصّـور أنّ عـتـبـة الـبـاب كـانـت مـرتـفـعـة عـن مـسـتـوى الأرض، وهـذا طـبـيـعي فـقـد كـان يـحـاذي الأسـوار مـن الـدّاخـل خـنـدق عـمـيـق يـمـلأ مـن مـاء دجـلـة، كـان حـمـايـة إضـافـيـة تـمـنـع حـتّى مـن اسـتـطـاع اقـتـحـام الـبـاب مـن الأعـداء مـن الـدّخـول في الـمـديـنـة بـعـد أن يـسـحـب مـنـه الـجـسـر الـخـشـبي الّـذي يـربـطـه بـداخـل الـمـديـنـة.
ونـرى في رسـم نـفّـذ عـن صـورة فـوتـوغـرافـيـة الـتـقـطـتـهـا الـفـرنـسـيـة ديـولافـوا DIEULAFOY عـام 1882 أنّ تـحـصـيـنـاً أخـر كـان يـقـابـل الـبـاب مـن جـهـة داخـل الـمـديـنـة.ونـلاحـظ في هـذا الـرّسـم الّـذي كـان تـنـفـيـذاً دقـيـقـاً لـلـصـورة الـفـوتـوغـرافـيـة أنّ ارتـفـاع الـبـنـاء يـسـاوي حـوالي 10 مـرّات ارتـفـاع الـرّجـل الـواقـف بـجـانـبـه. ولـكـنـنـا نـجـد في تـخـطـيـط رسـمـه عـالـم الآثـار الألـمـاني فـالـتـر أنـدريـه في بـغـداد عـام 1899 :أنّ ارتـفـاع الـبـرج لا يـسـاوي إلّا حـوالي 9 مـرّات ارتـفـاع الـرّجـل الـواقـف أمـام الـبـاب. ومـن هـذا يـمـكـن أن نـسـتـنـتـج أنّ ارتـفـاع مـا تـبـقى مـن الـبـنـاء في ذلـك الـزّمـن كـان بـيـن 15 و 18 مـتـراً.كـمـا نـلاحـظ صـفـيـن مـن الـطـاقـات الـضّـيـقـة الـمـسـتـطـيـلـة الّـتي كـان الـقـوّاسـون يـرمـون مـن خـلالـهـا نـبـالـهـم مـن غـيـر أن يـراهـم الأعـداء ولا يـمـكـنـهـم أن يـصـيـبـوهـم.ولـديـنـا عـدّة صـور فـوتـوغـرافـيـة الـتـقـطـتـهـا جـرتـرود بـيـل في عـام 1910 ونـشـرتـهـا في الـعـام الـتّـالي .
الـشّـريـط الـمـخـطـوط في أعـلى الـبـنـاء :
ونـرى فـوق الـصّـف الـثّـاني مـن الـطّـاقـات شـريـطـاً مـنـحـوتـاً في الـطّـابـوق عـلـيـه نـصّ مـخـطـوط، كـان كـارسـتـن نـيـبـور Karsten Niebuhr قـد نـسـخـه في بـغـداد سـنـة 1764 ونـشـره عـام 1772:

ثـمّ نـسـخـه لـويـس مـاسـيـنـيـون Louis MASSIGNON عـام 1907 ونـشـره كـمـا يـلي :
“بـسـم الله الـرّحـمـن الـرّحـيـم. وإذ يـرفـع إبـراهـيـم الـقـواعـد مـن الـبـيـت وإسـمـاعـيـل، ربّـنـا تـقـبّـل مـنّـا إنّـك أنـت الـسّـمـيـع الـعـلـيـم. هـذا مـا أمـر بـعـمـلـه سـيّـدنـا ومـولانـا الإمـام الـمـفـتـرض الـطـاعـة عـلى كـافـة الأنـام أبـو الـعـبّـاس أحـمـد الـنّـاصـر لـديـن الله أمـيـر الـمـؤمـنـيـن وخـلـيـفـة رب الـعـالـمـيـن وحـجّـة الله عـز وجـلّ عـلى الـخـلـق أجـمـعـيـن صـلـوات الله عـلـيـه وعـلى آبـائـه الـطّـاهـريـن ولا زالـت دعـوتـه الـهـدايـة عـلى يـفـاع الـحـق مـنـارا والـخـلائـق لـهـا أتـبـاعـاً وأنـصـارا وطـاعـتـه الـمـفـتـرضـة لـلـمـؤمـنـيـن أسـمـاعـاً وأبـصـارا وافـق الـفـراغ في سـنـة ثـمـان عـشـر وسـتـمـائـة وصـلـواتـه عـلى سـيـدنـا مـحـمّـد الـنّـبي وآلـه الـطّـيـبـيـن الـطّـاهـريـن”.
وكـان نـيـبـور قـد قـرأ : “وهـذا مـا أمـر بـعـمـارتـه” بـدلاً مـن “بـعـمـلـه”، وقـرأ : “عـلى آلـه” بـدلاً مـن “عـلى آبـائـه”، وقـرأ نـيـبـور “ولا زالـت دعـوة الـمـدعي عـلى تـبـاع الـحـق مـنـازلـه” بـيـنـمـا قـرأ مـاسـيـنـيـون : “ولا زالـت دعـوتـه الـهـدايـة عـلى يـفـاع الـحـقّ مـنـارا”.ونـفـهـم مـن هـذا الـنّـصّ أن الـفـراغ مـن عـمـارة الـبـرج، أي تـجـديـده، كـان في زمـن الـخـلـيـفـة الـنّـاصـر لـديـن الله عـام 1221 م. / 1222 م. أي قـبـل حـوالي 36 سـنـة مـن سـقـوط بـغـداد بـأيـدي الـتّـتـار عـام 1258 م.
وقـد اسـمي هـذا الـبـاب أيـضـاً بـ “بـاب الـفـتـح” لأنّ الـسّـلـطـان الـعـثـمـاني مـراد الـرّابـع، بـعـد أن أخـذ بـغـداد مـن أيـدي الـصّـفـويـيـن، دخـلـهـا مـن بـاب الـطّـلـسـم. وقـد أمّـر بـرقـمـه بـالـطّـابـوق.
وتـذكـر الـفـرنـسـيـة ديـولافـوا DIEULAFOY أنّـهـا رأت الـنّـصّ الـتّـالي الّـذي أمـر مـراد الـرّابـع بـنـقـشـه عـلـيـه : “فـتـح الـسّـلـطـان مـراد بـغـداد في 24 كـانـون الأوّل عـام 1638 ودخـلـهـا مـن بـاب الـطّـلـسـم بـعـد أن ضـرب الـحـصـار أربـعـيـن يـومـاً أمـامـهـا”. ولا يـمـكـنـنـا الـتّـأكـد مـمـا ذكـرتـه ديـولافـوا فـهـو لا يـظـهـر في الـرّسـوم والـصّـور الّـتي وضـعـتـهـا في كـتـابـهـا.
الـمـنـحـوتـات الـمـحـيـطـة بـالـبـاب :
وتـحـيـط بـأعـلى الـبـاب مـنـحـوتـات قـلـيـلـة الـبـروز مـعـقّـدة الـتّـركـيـب ربّـمـا يـعـود تـاريـخ تـنـفـيـذهـا إلى فـتـرة تـجـديـد بـنـاء الـبـرج في زمـن الـخـلـيـفـة الـنّـاصـر لـديـن الله كـمـا سـبـق أن رأيـنـا.ونـرى في وسـط أعـلى الـبـاب رجـلاً تـربّـع جـالـسـاً يـعـلـو رأسـه تـاج يـمـسـك بـلـسـاني ثـعـبـانـيـن مـجـنـحـيـن خـرافـيـيـن : “تـنـيـنـيـن” شـديـدي الـطـول يـتـلـوّى جـسـد كـلّ مـنـهـمـا مــلـتـفّـاً عـلى نـفـسـه عـدّة مـرّات في عـقـد مـتـلابـسـة حـتّى يـنـزل ذنـبـه إلى أسـفـل الـقـوس، تـمـامـاً فـوق رأس كـلّ مـن الأسـديـن الـجـالـسـيـن فـوق الـعـمـوديـن الـلـذيـن يـسـتـنـد عـلـيـهـمـا الـقـوس.
صـورتـا الأسـديـن :
نـلاحـظ أنّ كـلّ واحـد مـن الأسـديـن جـالـس عـلى قـائـمـتـيـه الـخـلـفـيـتـيـن بـيـنـمـا اتّـكـأ رأسـه عـلى قـائـمـتـيـه الأمـامـيـتـيـن والّـتـفّ ذيـلـه حـول جـسـده.وهـمـا لا يـشـبـهـان أسـود أسـوار ديـار بـكـر الـمـجـنـحـة والّـتي جـاءت ولا شـكّ مـن أسـوار أكـثـر قـدمـاً وأدخـلـت بـعـد ذلـك في الأسـوار الإسـلامـيـة (مـن الـقـرن الـعـاشـر إلى الـقـرن الـثّـالـث عـشـر). أنّ أسـلـوب مـنـحـوتـات بـاب الـطّـلـسـم مـخـتـلـف عـن أسـالـيـب الـفـنـون الـعـبّـاسـيـة وخـاصـة أسـالـيـب سـامـراء، ويـظـهـر فـيـه بـوضـوح تـأثـيـر فـنـون الـسّـلاجـقـة الأتـراك. ويـشـبـه أسـلـوب صـورة الـخـلـيـفـة (إن صـحّ أنّـهـا تـصـوّر الـخـلـيـفـة) أسـلـوب صـورة بـدر الـدّيـن لـؤلـؤ، صـاحـب الـمـوصـل، في ذلـك الـزّمـن تـقـريـبـاً.
وأذكّـر الـقـارئ الـعـزيـز مـن جـديـد بـأنّ الـسّـلـطـان الـعـثـمـاني مـراد الـرّابـع، بـعـد أن هـزم الـصّـفـويـيـن ودخـل بـغـداد، كـمـا سـبـق أن رأيـنـا، في 24 كـانـون الأوّل عـام 1638 م.، أمـر بـرقـم فـتـحـة الـبـاب بـالـطّـابـوق لـيـمـنع أعـداءه الـفـرس مـن دخـول الـمـديـنـة مـن جـهـة الـشّـرق، وهـو مـا نـراه عـلى الـصّـور الـتّي الـتـقـطـت لـلـبـرج.
وفي عـام 1657، أمـر والي بـغـداد مـحـمّـد بـاشـا الـخـاصـكي بـتـرمـيـم بـاب الـطّـلـسـم بـعـد أن خـرّب فـيـضـان دجـلـة في الـعـام الـسّـابـق بـعـض أجـزائـه.ثـمّ اسـتـعـمـل الـبـرج في بـدايـة الـقـرن الـعـشـريـن، لـخـزن بـارود الـمـدافـع الّـتي كـانـت تـحـمي أسـوار بـغـداد. وعـنـدمـا تـقـدمـت الـقـوات الـبـريـطـانـيـة نـحـو بـغـداد، فـجّـرتـه الـقـوات الـعـثـمـانـيـة قـبـل انـسـحـابـهـا مـن الـمـديـنـة في 11 آذار 1917، وتـنـاثـر شـظـايـا وتـسـاقـط أكـوام حـجـارة، ولـم يـبـق لـنـا مـنـه أثـر.

عن مدونة الدكتور صباح الناصري
(بين دجلة والفرات)