فاطمة المحسن وتمثّلات الحداثة

Wednesday 13th of March 2019 06:39:09 PM ,

عراقيون ,

سعد محمد رحيم*
الحداثة العربية، ومنها العراقية بطبيعة الحال، أنتجتها صدمة الاستعمار وعمليات المثاقفة.. كانت ثمة بذور للتحديث كامنة في رحم الواقع التاريخي إلا أنه ما كان لها أن تنشط وتثمر في حينه من غير فاعلية ذينك العاملين.. كان التاريخ، في الزمن العربي، تحت ثقل الهيمنة العثمانية الطويلة، شبه متوقف، والحياة تكاد تكون راكدة، عقيمة، سماتها الفقر والجهل والعزلة.

وبوصول طلائع سفن الغزو الأجنبي شواطئ الأراضي المسكونة بالناطقين بالعربية ( لمصر أولاً، مع حملة نابليون 1798 ) بدأ الزمن بالتململ، وراح الوعي يستيقظ وإنْ ببطء، وبرزت نخبة تحلم بتغيير الواقع. ومنذ ذلك الوقت حدثت تطورات كبيرة لا تُنكر، رافقتها انتكاسات وتشوّهات وإحباطات، جعلت من مسألة التحديث، في هذا الركن من العالم، إشكالية معقدة. وما زالت الدراسات والأبحاث تترى في مختلف البلدان العربية لإنارة المسألة ورؤيتها بوضوح أكبر، واقتراح حلول للمشكلات المتعلقة بها. وكتاب فاطمة المحسن ( تمثّلات الحداثة قي ثقافة العراق ) واحد من المقاربات الذكية والناضجة بهذا الشأن.

فلها رؤى عميقة في ما يخص التأثير الغربي ثقافةً وحضارةً وعمراناً على ثقافتنا، وعقليات نخبنا بعد تماسهم مع الثقافة الغربية، إذ ظهرت أنواع أدبية جديدة، كالرواية والقصة القصيرة والشعر الحر والمقالة الصحافية، وازدهرت فنون العمارة والرسم والنحت والموسيقى والسينما والمسرح بعد تأسيس الدولة الحديثة 1921، لتبلغ مستوى لافتاً من التطور، على وفق معايير التحديث، في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين.
ولم تسر عجلة الحداثة على أرض ممهدة، فكانت هناك قوى معيقة ترى في الحداثة خطراً على هوية المجتمع وقيمه وثقافته الموروثة. والمفصلان الرئيسان اللذان ألقيا بظلالهما على المجتمع الخام في العراق بتعبير فاطمة المحسن كانا: "الأول تلك الانطلاقة التي تريد الذهاب بعيداً في اتجاهات التحديث، والأخرى تبدو معيقة لعملية التطور، فكانت ثمار ذلك التوتر موضوعاً رئيسياً في الخطاب الكامن في الثقافة العارفة وتعبيراته الأدبية والفنية. في أساليبه المنوّعة التي تغرف من رومانسية الغرب وواقعيته، وفي حركات احتجاجه الأدبية وتمرّداته الفنية وأفكاره وفلسفاته، لتصبّ في لغة الكتابة المتوترة الساخطة على الواقع، وفي تغريبات وتجريدات الفن التشكيلي، وتوزّع مساحة التقليد والابتكار فيه على طيف واسع من نتاجات الرواد. كما في بروز موجة الشعر الحر التي نتجت من تلاقح بين شعر الحداثة الانكلوسكسوني والشعر العربي المتطلع إلى نبذ الصيغة القديمة لبحوره وخطابه ومواضيعه ولغته وأسلوبه"ص212 ـ 213.
يقترن تطور المدينة بفن العمارة. فجمالية المشهد المديني تبرز مع الأشكال المعمارية الجديدة التي تمنح المكان طابعه الحداثي. وكان لابد من أن يضفي المعماريون العراقيون الذين تخرجوا في الجامعات الأوروبية، وتعرّفوا على المناهج والأساليب والرؤى المعمارية الحديثة، وأقبلوا بطموحات كبيرة، مسحة مبتكرة، ذات بعد ثقافي جمالي على العاصمة بخاصة، وعلى بقية المدن الكبيرة بعد ذلك. حيث "قدّم المعماريون والفنانون العراقيون أنفسهم كطليعة ثقافية تتجاوز الزمن الساكن للمدن الملتحقة بالحداثة الغربية، ولكن خطوات الرواد الأوائل في هذا الميدان، عانت الصعوبات ذاتها في فهم الكيفية التي تصبح للأزمنة والأمكنة سمة حداثية"ص219.. وتتحدث المحسن أيضاً عن الحداثة الهجينة، في الجانب المعماري، لأن الطرز والأشكال المعمارية لبغداد كانت متنافرة "لم تستقر على هوية معمارية معينة"ص218. بيد أن روح الحداثة تجلت عراقياً، على أوضح ما يكون، عند المعماريين الذين أرادوا إشاعة قيم جمالية سامية تربي ذائقة مجايليهم والأجيال اللاحقة. قبل أن ندخل عصر الخراب منذ مستهل الثمانينات.
بالمقابل كان الفن التشكيلي يرهص لتحوّلات المدينة وناسها ويحاكيها في الوقت نفسه.. وقد سكن هاجس الاستكشاف معظم هؤلاء الفنانين، ومنهم خريجو جامعات غربية، كأقرانهم المعماريين. وإلى جانب هؤلاء كان هناك الشعراء والقصّاصون، وسيجد هؤلاء "في بغداد القديمة، في أحيائها المتهالكة وأزقتها القذرة المتداخلة، وبساطة عيش أناسها ما يغري بالتوقف. بغداد القديمة تمثلت في أعمال الرسامين والقصاصين والشعراء، باعتبارها هوية العبور إلى الخصوصية أو الأصالة، وهي فكرة تمليها الجغرافيا الثقافية للحداثة، وطابعها التمييز والتجاور والتراكم وإحداث التقاطع بين القديم والحديث، أو التلامس بين حدّيهما، كي يخرج في الفن شيء جديد"ص223.
غير أن أهم المؤسسات التي تبنت مهمة تحديث المجتمع والمدينة هي مؤسسة التعليم، عبر مناهجها وفصولها الدراسية المصمّمة على غرار ما هو سائد في الغرب. وفي دولة حديثة التكوين مثل العراق كان لابد من أن ترتبط هذه المؤسسة بمفاصل السلطة السياسية الحاكمة. ولا يمكن، كما تقول المحسن: "تصوّر التعليم المدرسي بعيداً عن ستراتيجيات تهدف إلى خلق منظومات للضبط وأفعال السيطرة السياسية، وهي في النهاية نوع من العقلنة المتقدمة للمجتمع، حين تقوم السلطة بمأسسة التقدّم العلمي والتقني، كي تلغي الشرعيات القديمة حسب تعبير هابرماس"ص261.
وبفضل أساتذة أكفاء من أصحاب الشهادات الرفيعة التي حصلوا عليها من جامعات عالمية، وبعضهم من العرب والأجانب، وحقول التخصصات العلمية الدقيقة التي فُتحت في الجامعات العراقية صار بالمستطاع ربط التعليم بالمجتمع، وجعل الجامعة مناراً ثقافياً حداثياً مشعاً يشمل بتأثيره المواقع الاجتماعية خارج أسوار الجامعة. وكان من أهم تلك الحقول التخصصية هو التاريخ والآثار. وقد عدّ هذا الحقل الفضاء الذي تُستثمر مخرجاته العلمية في تعميق الوعي الاجتماعي الوطني، وإنشاء سردية تاريخية يمكن الركون إليها في تثبيت شرعية المجتمع المديني الحديث والدولة الجديدة. وبهذا تمت الاستفادة من مناهج المستشرقين وطروحاتهم، عبر تفحّصها علمياً ونقدها. "ولعل عمل المؤرخين العراقيين المشتغلين في حقل الآثار ( الآركيولوجيا ) كان قد أخرج الدرس التاريخي إلى آفاق أكثر رحابة وتميزاً في الخصوصية المحلية التي تستقرئ ما تبقى من حضارات الماضي في لغة المكان وعاداته وطقوسه"ص266. وكان الهدف ، في النهاية، هو خدمة الحاضر، وترصين الهوية المعرفية "التي تصل الدرس المحلي ببعده الشمولي"ص270. والهوية المجتمعية، الوطنية، المتخطية للهويات الفرعية، ما قبل الدولتية. وبرأي المحسن أن علينا "معرفة التاريخ من حيث هو مجال للتثاقف مع الغرب، ومن حيث علاقته بالهوية، وعلاقته بالعلم والأدب، وارتباطه بالدرس الأكاديمي"ص274. وتدرس المؤلفة، من منظور تحليلي نقدي، المساهمات المائزة لأربعة من كبار المؤرخين العراقيين، يختلفون في الرؤى والمرجعية الآيديولوجية ومناهج البحث، وهم: جواد علي وعبد العزيز الدوري وطه باقر وعلي الوردي.
تلاحظ المؤلفة أن الجامعات فقدت حياديتها ورصانتها العلمية بعد أن أقحمت المؤسسة السياسية المتولدة نتيجة الانقلابات العسكرية يدها في المناهج والفصول والإدارات.. تقول: "ولم يضعف مستوى الجامعات إلا بعد الاضطرابات السياسية التي صاحبت الانقلابات العسكرية، والتي تسربت فوضاها الجماهيرية، واستهانتها برصانة المؤسسات وعلميتها إلى النظم التعليمية في العراق وفي مقدمتها الجامعة"ص265.
الفصل الخامس والأخير من دراسة فاطمة المحسن الجادة والمسهبة تخصصه للجيل الستيني، ولعقد الستينيات وما جرى فيه من انقلابات وتحوّلات حداثية. وهو العقد الذي يعد منعطفاً فارقاً في مروية القرن العشرين السياسية والثقافية بعدما شملت بأصدائها معظم أنحاء العالم المتمدن.. العقد الذي شهد ثورات شبابية كبرى، ذات شكل ثقافي بارز، في بلدين غربيين مهمين هما أميركا وفرنسا، وما "تميزت به هذه الثورة هو طابعها الأممي المرتبط بالممارسة الثقافية، الذي يملك عدوى التعميم والانتشار في كل العالم، إضافة إلى ميزتها الأخرى وهي شعبية وجماهيرية الكثير من تصوّراتها وطرائق تعبيرها"ص316.
كانت تلك الثورات الصاخبة، في جانب منها، ذات روح يسارية متأثرة بأفكار تروتسكي وماو وجيفارا، فقد دعت إلى تحطيم العالم القديم والتمرد على جيل الآباء وقيمه وأخلاقياته ومؤسساته، وتحقيق المساواة والحرية. وهي لم تخل في الوقت عينه من جانب آخر، عابث وعدمي انعكس في الحرية الجنسية وتعاطي المخدرات وارتداء الملابس الغريبة، وحتى بعض السلوك العنيف. وكانت لها انعكاساتها في مجالات السياسة والثقافة والفكر والسلوك الاجتماعي، على الرغم من أنها لم تحقق أهدافها المعلنة بسبب عفويتها، وعدم نضج الشروط التاريخية لجعلها ثورة مستمرة. وترى فاطمة المحسن أن الستينيات الثقافية كانت عابرة للحدود، وإنها "مرت على الشرق الأوسط على نحو غير مسبوق، ليس في الأدب والفن، بل في الحياة العامة. وبدت في السبعينات أشد وضوحاً في موضات الملابس وقصّات الشعر والسينما الجديدة وفرق الموسيقى والرقص وانتشار أغاني الروك والبيتلز ومسرحيات العبث وسواها"ص320. وتشير المحسن إلى تأثيرات السينما المصرية والثقافة الفرنسية والثقافة الأميركية، لاسيما من خلال أفلام هوليوود، على "موضات الملابس وأساليب التصرفات"ص322، في العراق. وقد استطاعت السينما، حيث انتشرت دور العرض العصرية في بغداد والمحافظات، "أن تسهم بشكل فاعل في تشكّل الوعي الحداثي لمرتاديها في مدن بعيدة ومقصية قبل أن يكون للتلفزيون هذا التأثير المباشر"ص323.
مع الستينيات بدأت نذر انتهاء دور المثقف الطليعي الراعي للمجتمع. وبرز جيل آخر حاول التخلص من فكرة الالتزام، فراح المثقف يبحث عن ذاته "ويطلب من الجمهور أن يساير مزاجه الشخصي ويتجاوز الواقع إلى عالم الشطحات والعجائب، سواء في الشعر أو الفنون التشكيلية والمسرح. والحق أن الذي شجّع هذا الحال تزايد عدد طلاب الجامعة والشباب الحداثي، وظهور مجتمع من المتعلمين أكثر تأثيراً داخل الحياة الاجتماعية"ص331.
لا يغطي ما قلناه عن كتاب ( تمثّلات الحداثة في ثقافة العراق ) إلا جزءاً مما تضمنه من تفاصيل أحداث وظاهرات، فضلاً عن أفكار وآراء يمكن أن نتفق بشأنها مع المؤلفة فاطمة المحسن في كثير، وربما اختلفنا معها في قليل. هي الباحثة والمفكرة المثقفة التي تعتمد منهجاً تحليلياً تتعدى باستخدامه الوصف إلى استنتاجات لامعة. فهذا الكتاب الذي يكمل مشروعها السابق عن تمثّلات فكر النهضة في الثقافة العراقية، يقدم عرضاً شاملاً مدققاً لتحولات فكر الحداثة وتمثلاته في تلك الثقافة، لا غنى عن قراءته للباحثين والمتخصصين والمثقفين والمهتمين بقضايا ثقافتنا الوطنية.

* اديب وكاتب راحل سبق ان نشر هذا المقال
في جريدة المدى عام 2015