طيش الياقوت.. قراءة في ديوان الشاعر سليم بركات

Tuesday 26th of March 2019 07:33:46 PM ,

منارات ,

ياسين النصير
المساحات المتخيلة للشعرية العربية في حداثتها الثالثة متأرجحة وغير مستقرة بعد. فهي لم تأخذ من الواقعية إلا ما هو ديناميكي متغير، ولم تعتمد المخيلة إلا وهي في بوتقة الغنائي الوهمي، ولم تتسلم من الروح إلا بما هو أرضي، ومن الأرضي إلا ما هو سماوي، فأنتجت نصا تأملت به مساحتها الجغرافية الجديدة التي يعد الاختلاط فيها هوية لها. مميزة عن جغرافيتي الحداثة الأولى، حداثة نص السياب ونازك والبياتي، التي اعتمدت الدربة الإيقاعية والواقعية المشبعة برومانسية ثورية ووطنية،

والحداثة الثانية حداثة أودنيس وسعدي وقباني ودرويش وعبد الصبور وحسب الشيخ جعفر.. والتي اعتمدت الأيديولوجيا وقارة الجسد والتراث والأقنعة وانفتاح النص الشعري على هواء العالم.

في ضوء ذلك لم يعد نص الحداثة الثالثة الشعري معتمدا أي بقعة جغرافية من بقاع النص القديم والحديث معا، ما لم يعتمد أي غرض من أغراض الشعرية العربية القديمة، أو أغراض الشعرية العربية بحداثتيها الجديدتين، وإنما اعتمد المساحة المختلطة للجغرافيات كلها، محاولة منه استخلاص بقعته الخلاقة الجديدة فكان ميلاد" النص" بمفهومه الوجودي إيذانا بميلاد هذه الحداثة. واعتمدت اللا غرض إلا بما توحيه اللحظة المحتدمة من إحساس ما بالأشياء والعالم وأفعال كلية الزمن. لذلك كله ولغيره لا يزال نص الحداثة الثالثة الشعري في مرحلة التبلور وأن كتبت فيه مئات القصائد، وفي مرحلة البحث عن الذات وإن حددت معالمه، وفي مرحلة صياغته لقالب فني وأن اعتمد على تهشيم القوالب الشعرية القديمة..
والنص الشعري" طيش الياقوت" لسليم بركات( دار النهار للنشر- بيروت 1996) وهو أحد نصوص شعرية الحداثة الثالثة، نص سري غامض، مألوف وغرائبي، واقعي ووهمي، حلمي خيالي، وقد لا يكون أيا من هذه المسميات لأنه لم يعتمد قالبا فنيا محددا، حيث تعودنا نقديا أن نسمي الغرض بما يسميه لنا القالب الفني للمخيلة. فالنص يعتمد التركيز على الحركة، لذلك ينفي السكون المتأمل، وكأن الشاعر في تعامله مع حدثه" فكرة الموت" اندمج في رقصة كونية معه، فهو لم يراقبه عن بعد، أو يقرأ عنه في كتاب، أو يقنعه كشخص أو حادثة، أو يستعيره لأيديولوجيا ما، أو يستقرئ منه مادة تفيد النقد أو الإنشاء الثقافي، أو مفردة تلقينية يمكن تداولها واعتمادها، وإنما كان الحدث هو الشاعر، والشاعر هو الحدث فكان الدخول أليه كالخروج منه، والسؤال عنه، كالسؤال فيه، والنفي له، كالوجود فيهن فهو- أي الموت- تكوين غير محدد، وصياغة لسانية لا تحتويها اللغة، ووجود يتمظهر فكرة تارة، وأشياء تارة أخرى. لذلك كان الرفض له كالقبول به، فما يوحيه الموت كامن فيه، وما يفعله نفعله نحن بأنفسنا، لذلك تصبح محاورته إيذانا بفتح طلاسمه، ومخافته دخولا إلى طمأنينة، وبما أنه ليس موتا مسمى، ولا سببا محددا، قيل فيه ما يشبه القول السري، والغامض والمبهم، والمعلوم والمجهول، فهو كل الموجودات ونفيها معا.
وسليم بركات، الذي اعتمد التداخل بين الكلمات محاولة منه لأن يزيح العادي المهمل منها، يفتش دائما عن الكلامية المولدة، تلك البقعة من القول التي لا تستعير الشعر وإنما تحتويه، ولا تتعامل مع الخارج لأنها كانت داخل، بقعة قول فيها روائية مشهدية، وسردية شعرية، وفيها أيضا التوقف عندما تؤذن الكراسي بالرحيل عن دائرة وحاور جلسائها. في هذه اللحظة تكون الأشياء قد ابتدأت بصياغة وجودها الشعري:
" أنت مثلي تشهد ختان الفجر، ومشاجرات الضوء وكذلك النزال الصباحي بين المكان وحماقاته أنت- كفراغ رضيَّ له ثرثرات الخوف لا تُريك الحياة ارتباكها، ولا تريها الفضيحة أكمل من الأنين".
وكعادة الشعراء الدراميين، ينزل الشاعر الموت إلى الأرض ليحاوره، ويدخله مساحة المسرح ويجلسه على كرسي ليوجه سؤاله إلى المشاهدين قائلا لهم: لماذا أنتم أحياء فوجودكم أحياء يعني وجودي حيا، وموتكم موتي، ولما كنت لا أملك قدري الخاص فأنا مشدود إلى حياتكم اليومية، أفعالها سكوتها،صخبها وهدوئها، والحبل بيننا مشدود كلعبة شدنا الوجود أليها. لا أنتم هاربون منها ولا أنا، كلانا موتى وأحياء، والحوار ما بيننا موصول لا ينقطع، كلما هربت منكم شددتموني إليكم، وكلما هربتم شددتكم أليّ. فأي دراما جديدة تؤلفها الفصول بيننا، وأي حوار نتكلمه ما دمنا لا نعرف متى ابتدأنا ومتى ننتهي منه.
" لا قناع عليك، لا قناع يريك النعمة مرفوعة على أنين المشهد، ولا غد لك، لأنك منذور أبدا، للذي تعرفه أيها الموت"
لم تكتمل البنية الدرامية للقصيدة بأن يحضر الشاعر الموت أمام المشاهدين كي يبادلهم الدور، فاللعبة الكوميدية تفرضها أجواء المسرح عندما يستقرئ الشاعر من الموت والمشاهدين جدل الحال الكوميدية التي صنعوها بحضورهم معا إلى المسرح. فعندما يكون" الموت" على يقين من لعبته تبدأ الكوميديا، أي أنها حال انفعال قصوى تصل بنا نحن القراء- الرواة- إلى المفترقات، عندئذ يستحيل كل شيء على خشبة المسرح إلى لغة قديمة، لغة لم يعد استعمالها ممكنا.
"آه، كم تتبرج بالفكاهات التي اسردها أيها الموت كم تتبرج بيقينك وأنت سرد الفكاهة على الحياة رسولك المساء إلى جنائن النهار المنكوبة، وأختامك أختام الأنين أيها الموت"
ومن داخل هذا اليقين المشتبك مع الحياة المنسحبة من الموت ومن الحدائق معا، يبدأ الشاعر بأن يؤسس لمملكة الرؤية الجديدة هذه مفردات قصيدته. وكأي شاعر ملتزم يستحضر هذه المفردات من بيئته ومعارفه وأقربائه وأشيائه الممارسة وقضاياه المختبرة، بمثل هذه العدة الكلامية والحياتية يبني سليم بركات بيت نصه الشعري، وقد تقاسم باحته وحجراته وحديقته، الموت، والأشياء الحاملة لفعل الموت.

" على رسلك أيها الموت:
من شاهق تذر ذر الثلوج نيرانها على المرايا، ويجازف النهار بالليل الذي يزور الأختام. والمكان لعبة في جدالك، المكان يتسول من يديك الحقيقة فكاهة، فكاهة".
والمكان المسرح هنا، هو كل الجغرافيا المختلطة، وأن علمت عليه كرديتان علامة قلقة، وموزعة، فهو مكان كلي، بحره حجارة، وصحراؤه مياه، ونخيله أعمدة، ومعابره كهوفا، وأطفاله رسلا، وصيحاته بوق القيامة، وليله ثقيلا، وصبحه لا ضياء فيه.. المكان المسرح ليس متخيلا،ولا مستحضرا من الذاكرة، أنه الحديقة التي يتصاهر فيها الضوء والزرع، الناس الذين يلفهم الصمت والكلام، أما ما خلف المسرح- المكان- فكان الصيادون، والعتالون، والزراعون والصيارفة، ومن يسترق السمع أو من يتفوه، فالكل في حضرة الموت يقظي ولكن بلا صوت، وفي الدائرة الأقرب يصطحب الموت معه كل عداد الحروب وصلبانها وأسلحتها وجراثيمها وسدنتها، وكأنه في احتفال يشيع القتلى الجدد فيه القتلى القدامى، أما الموت، والشاعر ففي عراك وجودي كل منهما يلقي بعصاه في جغرافية النص، لا الشاعر قادر على احتواء فعل الموت بعد أن خلقه وجسده على المسرح، ولا الموت قادر على الخلاص من أنه موت.
" يا للحروب تطرق عليك الباب في خجل، أيها الموت، لتشغلك كانثي بحديث الذكر، يا لهباتك التي لا تقدمها مرتين، يا لدوي السطر المحمول على يديك وهو يمزق الكتابة"
يحاول النص الشعري الجديد أن لا يجيب عن أسئلة بل يثيرها، ويتركها عارية من الأجوبة. فالأجوبة أغطية قد لا تحسن دثار الجسد، فتبدو ملحقة به أو مموهة له. وسليم بركات لا يجيب، ولا يتصنع السؤال، وإنما يلقي بالحال لتتحول إلى أسئلة. وهذه الطريقة الفنية واحدة من حقول الجغرافيا الجديدة للنص الشعري. ليس في أرضيتها معالم محددة، ولا خرائط معلمة، وإنما هي تكوين لم يكتشف بعد وأن سارت عليها مئات العربات الشعرية. ولأن بيروت أو كردستان هي أرضية هذه الجغرافية فكل ما جرى فيها يؤذن بدخول الموت أليها، أو يؤذن بخروج الموت منها. وفي غبش هذه الجغرافية المليئة بالأموات نلمح ملامح العراة، الصيادين، والمحاربين والصبية والفقراء والنجارين وكل ما من شأنه أن يصافح الفجر فإذا به يفاجأ بالموت وقد أنسل أليه. فأي حزن تولده هذه المدارات التي تلف بيروت أو كردستان، وأي ملف يفتحه سيلم بركات ثم لا يقدر على إغلاقه بعد أن طارت كل الكلمات المكتوبة به لتحط فوق بياض قصيدته مزاحمة شعوره الصباحي، وقهوته ولغته ولسانه، وأي إمكانية قلميه يوفرها سيلم لنصه الجديد بعد أن أطلق طير الصباح جناحيه في جنان النار المحيطة بالذات والمدن معلنة هوية الموت للأشياء وللأفكار معا. ولذلك لا تستطيع أن تأتي بشواهد من النص كثيرة لتؤكد فكرتك النقدية، فأي شاهد لا يؤكد إلا جزئية من هذه الجغرافية، وأي اقتباس يقل فيه الشعر. لذلك فتحول القصيدة إلى أميبيا زاحفة نحو ذاكرتنا لنضيف أليها أو نقتبس منها كلما أعدنا التفكير وعليه لا يصلح النص الشعري الحديث للاقتباس أو الحفظ أو الاستشهاد أو الترديد كالأناشيد المدرسية. لأنه تكوين غير مستقر، وبناء لما يكتمل بعد، ومادة يعاد تشكيلها كلما اكتشفنا ذواتنا. فكيف إذا كان النص عن العلاقة مع الموت، هذا المبهم المعلن، والسري الصواتي، وقد دخل ميادين الجسد والحديقة والأزهار والأشياء، وأصبح مادة تحس وترى، ولغة تملأ بياض الذاكرة. فالنص بعد تحديده لجغرافيته الواقعية أو الوهمية، يصبح حقيقة، ليس من خلال الكتابة وحدها، وإنما من خلال احتوائه على نصوص مضمرة يكتشفها القارئ.
" أ تهذي كلما شُغلت بك؟ نداء اللعبة أنت، يا صرير الباب الذي افتحه صباحا، خارجا إلى مساكب جسدي، أ تهذي وأنت تدفع عرباتك الصغيرة لتنحدر بأطفال الشيخوخة إلى فراغك الفتي؟ كل عدم يتهادى ببغاله إلى حنينك بقطارات منسية، بشجيرات الليف التي تتدلى منها القرى بيضاء كشر اشف الحرير"
تمنحنا النصوص الإشكالية حرية القول النقدي لأنها هي الأخرى تحوي نقدا جزءا من بنيتها، والنقد ليس تساؤلا، بل جدل، ومحاولة لاستبطان الذاكرة علها تفصح عن مكنون جماعي لا يستطيع اللسان المفرد الإحاطة به، هكذا فعل نص سليم بركات، عندما عالج موضوعا ليس ذاتيا- الموت- وصيّره تكوينا ليس أحاديا، فكانت الإشكالية أن تعددت الرؤية أليه: الموت صوفيا، أو الموت دينيا أو الموت قتلا، أو الموت شيخوخة، وسليم إذ يكتشف أن لا هوية للموت، وأنه وحده القادر على أن يكشف العلاقة الجدلية بين الإنسان والطبيعة، الإنسان وتاريخ الأشياء، الإنسان والثورات الإنسان وكل الأفعال اليومية المهملة.

" أيها الموت..
هات سؤالك الخجول لأخبرك كم حررتك من جدال خاسر بينك وبين المشهد، وكم أخفيت حرجك من القيامة بنقاب أسدلته على أبدك المستغيث، أ طفلي أنت؟ أ ندائي المكتوم في مشيئة الظاهر أنت؟ كبرنا معا بالحنين ذاته إلى وحشة أنقى في أنينها أيها الموت"
ولأن القصيدة مركبة، وحوارية، وفيها مستويات مشهدية عدة، فهي لا تعطي فكرتها بيسر، فالشاعر لا يحاور مجهولا، بل معلوم متغير، ومتحرك، وواقع لا يبقى على هيأة.
تحتمل النصوص الشعرية الجديدة- خصوصا تلك التي تداخل بين السري والشعري- في فضاء حرية الأشكال، فبعد أن كسر النص الجديد النوع الأدبي وقالبه المقنن، تمرد على الشكل- اللغة- والذي كان لوحده المعيار الجمالي لكل طروحات النقد الحديث. وجاء تمرده ليس من أجل اكتشاف كلاما داخل اللغات المتداولة، ولا مساحة معينة لم يطرقها الشعر، وإنما في إعادة هذه اللغة إلى منابعها، أعني فاعلية الحكاية والأخبار والقول الشفاهي والتجسيدات والمرئيات. لقد أصبحت القصيدة الحديثة مجسا للغة بوساطة اللغة، وليس عبورا من اللغة إلى الواقع. وهذه حال معقدة نقديا وشعريا، نقديا لأنها تنبئ عن تحديدات للقول نابع من داخل النص، وشعريا لأنها تعتمد التكرار والإعادة والتوسيع على حساب الفكرة الواحدة. وكلتا والقيمتين نشأتا في صلب النص الحديث. وسليم بركات في" طيش الياقوت"( والعنوان له دلالة التمرد على الهيأة الثابتة) قد دار نصه دورات عدة كي يشمل به كل ما هو كامن من جدلية الموت/ الحياة. وكأنه في بحثه المضني هذا يحول ظلال الأفعال الخفية إلى حقائق مرئية ومعاشه لقد قدم النص مشهدا روائيا بالغ التعقيد بلغة شعرية غنائية ومركبة، في محور العلاقة الكونية بين الشاعر/ الموت. وخلفهما معا، تكمن مساحة الصراع الكبرى في الوطن المحاط بالموت، والقهر، والزمن المفروض مما يعني أن الحداثة الثالثة للشعر لم تعد صوتا ضد أحد، أو لغة تؤد لج في بيان، أو مادة، أو مادة تصلح للدراسة، وإنما هي بحث في المكونات الأولى للأشياء، بحث يشبه اكتشاف أعماق البحار أو مجاهيل الكون.. فالكون الذي يمارس حضوره معنا كل لحظة، ليس موتا نسيجيا وإنما هو حضور كوني في الجسد وفي الأشياء معا. فالحداثة الجديدة وهي تفتح كواها الأسلوبية في مجرة الواقع المعيشي، لجأت إلى الكليات من قبيل: الموت، الواقعية والخيالية، كي تكسوها بغبار الحركة الدائمية. ومثل هذه الحداثة قد لا تكون مهيأة لشاعر قصير الرؤية، ضعيف الحساسية بالمتغيرات اليومية على ما يحيطنا، فهي من صلب البنية الدرامية التي تحول الصراع فيها من النقيضين الخارجيين إلى النقيضين وهما معا في جسد واحد.
هكذا هي " طيش الياقوت" بنية مركبة تعاود الظهور كلما وجد الشاعر ثمت دورة جديدة لها. فبدت مكثفة برغم من طولها، وقصيرة برغم من الضمائر المتداخلة فيها.

وفي الكتاب، ثمت قصيدتان هما: الأقفال، مقالة في خواص الظاهر، واستطراد في سياق مختزل. تستحق وقفة أخرى، لا تسعها هذه المقالة المخصصة لصحيفة يومية. والملاحظة المنهجية التي يتلمسها القارئ من هاتين القصيدتين أن الشاعر فيهما غيره في" طيش الياقوت" وربما كانت حاجته إلى تقليل فاعلية السرد الشعري فيها دفعه لأن يركز على البوح الشعري، والفرق كبير، هناك حيث السرد يتطلب محاورة ووجودا عيانيا للآخر، وتفعيل المشهد، وقياس ردود الأفعال مع الخارج بينما هنا نجده يستبطن ويكمن، ولا يحاور إلا قليلا، فالنص الحديث، لا يتقولب في شكل قارورة مستطرقة، وإنما بفرض شكله عندما تجد نفسك مكملا له.