ثنائية الإنسان والمكان في أعمال علاء مشذوب

Wednesday 27th of March 2019 07:23:21 PM ,

عراقيون ,

علي لفته سعيد
تتمحور الأفكار السردية للروائي الراحل الدكتور علاء مشذوب، الذي اغتاله مسلحون في مدينة كربلاء، حول ثيمتين رئيستين مهمتين: الإنسان والمكان... هذه الثنائية هي التي تتسيّد أغلب كتاباته حتى تلك التي تتحدث عن أدب الرحلات أو القصص من أجل إنتاج الموقف الذي يريده أن يكون عليه... ليس بالصيغة الآيديولوجية، بل بالقدرة على الاستنهاض، كما يتبين ذلك في عشر روايات صدرت له، وفي أعمال لم تصدر بعد، واطّلعتُ عليها مخطوطةً بحكم مزاملتي له.

الثنائية الأولى هي ثيمة الإنسان، ليس المقموع أو الفقير أو الذي يبحث عن قوت يومه فحسب، بل الإنسان المهمّش مهما كانت مكانته في المجتمع... فهو يحاول أن ينقل الثيمة الحكائية في كلّ رواياته لتكون معادلاً موضوعياً للإنسان المرتبط بالفكرة المتشعبة المتأثّرة بالواقع أو الواقع الذي يتأثّر بالحكاية أو حتى الحكاية المستلّة من الواقع... فهمّه هو الإنسان الذي يبحث عن صيغة إعلان وجوده على الأرض الذي يشكّل المكان ركيزةً أساسية في البحث عن تاريخية الإنسان وجذوره وذاكرته وذكرياته.
والمكان يشكل الثيمة الثانية في جُلّ كتابات مشذوب... إنه المنطقة العليا التي تسكن أفكاره فيضع شخوصه في المربّعات التي تشير إلى الصراع في عملية التدوين الحكائي للرواية... فهو مسكونٌ به، يحاول إعطاءه أكبر قدرٍ من الأهمية، ليكون متوازياً ومتقارباً مع الثيمة الأولى. الثيمات الأخرى تتراجع إلى المرتبة الثانية ومنها الموت والحياة والإيمان... لأن هذه كلّها مرتبطة بالثيمتين اللتين تصنعان الرؤية العامة لمنهجية كتاباته، حيث قدرة المكان على مغالبة الإنسان، وصراع الإنسان مع المكان، وهو تحديداً مدينته كربلاء التي تشكل بؤرة للأحداث. إن الإنسان هنا هو مَن يصنع قيمة المكان... لكن، مع ذلك، يكشف جلّ كتاباته السردية عن منطقة وسطى تصل ما بين الثيمتين، كمحمولين مهمّين يبثّ من خلالهما، وعلى لسان رواته، الذين هم لسان الروائي ذاته، حتى في تلك التي ينطلق بها من عمق النقل السينمائي للحركة، كونه خريج أكاديمية الفنون الجميلة وحاصلاً على شهادة الدكتوراه، فيها، بمعنى أن اللقطة السينمائية لديه هي المحرّك الأساس الذي يجعل من كتاباته تراقب الإنسان في كيفية التحرّك على المساحة الواسعة للمكان.
صراع الثنائيتين موجود بقوة في رواية «آدم سامي مور» حيث مكان عملية التنقيب في سومر وفي منطقة «تل العبيد» في مدينة الناصرية. وفي رواية «بابل سامي مور» فإن المكان بابل الحضارية، حيث مواصلة التنقيب... وهو الأمر ذاته الذي ينطبق على مخطوطة رواية «أشور سامي مور» حيث الانتقال المكاني إلى منطقة أشور في محافظة نينوى، للبحث عن الجذور وكيفية محاولة الإنسان ليسابق المكان لمعرفة تفاصيل الصراع التاريخي... وكان قبلها قد أصدر رواية «مدن الهلاك والشهدان» وهما روايتان في إصدارٍ واحد، حيث يتبلور صراع الإنسان مع الوجود. وفي رواية «حمام اليهودي» ينتقل المكان إلى مدينته كربلاء، حيث بدأ المشوار المعتّق مع المكان والإنسان الذي يشكل خارطته، على اختلاف رواياته السابقة التي انطلقت من رؤية الإنسان إلى المكان، ليبدأ تركيزه على المكان والإنسان معاً، منتقلاً بعدها إلى المزواجة بين الثنائية في بوتقة إخراجية واحدة... فلا المكان يسابق الإنسان ولا الإنسان يغالب المكان... عبر حركة ذاكرة وعينٍ راصدة وكلامٍ مدوّنٍ على ألسنة أبطالٍ هم ذاكرة المدينة، وهو الأمر الذي ينطبق على روايته الأخيرة، حيث أراد رصد المدينة القديمة في كربلاء كمنطقة باب السلالمة وباب بغداد.
إن ما يمكن تأشيره على نتاج مشذوب السردي هي اللغة أيضاً... تلك التي تقود التدوين في الثيمتين إلى برّ الحكاية... فهي لغة غير معقّدة وبسيطة تأخذ بياقة الجملة، متنقلة ما بين الإخباري والتصويري ليمنح المتلقّي عتبة أولى لفهم دائرة المراكز التي ستنطلق منها الرواية. ولذا فإن اللغة تتحرّك وفق عين الروائي وهي عينٌ بسيطة تحاول إنبات الصورة في المخيلة وتراقبها، كيف ستكون لها بقعٌ ضوئية في ذهن المتلقّي... وهذه العين تسعى دوما لإبراز الثيمتين لكي تكونا في منطقة عالية يراها المتلقّي، وهي منطقة إخبارية سينمائية لا تقترب من الحكاواتي ولا تبتعد عن السرد... فمشذوب مهموم بالفكرة لتحويلها إلى أداة فاعلة تأخذ الفكرة إلى قيمة الإنسان المستلب من حقوقه، أو الإنسان المحكوم بالفجيعة كما في رواية «جريمة في الفيس بوك»، أو الإنسان المرتبط بالأرض كما في روايته «حمام اليهودي»، أو الإنسان المهمش كما في روايته «فوضى وطن»، أو الإنسان الباحث عن جذرٍ مستقر كما في «شيخوخة بغداد»، أو الإنسان الباحث عن قيمته الوجودية كما في «بائع السكاكر»، أو الإنسان الذي يريد التوصيل بين الأمكنة والعلاقات التاريخية والفكرية كما في روايته الأخيرة «شارع أسود»... إنه ينظر إلى الأمام دوماً فيرى ما يحلّق في مخيلته... وهو بطبيعته التي نعرفها يسجل كثيراً الحوارات من أفواه أشخاص يرتبطون بالمكان... الشخوص الذين يعطون ألفة المكان أو طقوسيته، مثلما يعطونه أهميته الذاكراتية التي لا تخلو من العاطفة، كونه يتعامل مع المكان الآمن والشخوص... لذا فإن الزمن وهو الحلقة الأخرى التي تعطي للمكان قيمته الواقعية كان منفلتاً، لأنه يريد التركيز على الثنائية أكثر من التركيز على زمنية الثنائية ذاتها... ليس بمعنى غياب الزمن، فهو يداريه كثيراً ولكنه زمنٌ منفلتٌ في السرد وإن بدا متصاعداً في حكاية الرواية... لذا نرى أن شبكة العلاقات الأخرى أو العتبات النصية التي يتشكل منها النصّ الأدبي تتمحور في هذه الثنائية التي تعيش معه... فهو يريد أن يكون الإنسان قادراً على التعبير عن ذاته، مصارعاً كلّ ما حوله من أجل إثبات أحقيّة الإنسان في الحياة والدين والحرية، وحتى في الموت.