يوم كان العراق يتحضر ويتقدم.. الطبيبة العراقية سانحة أمين زكي في ذكرياتها الحميمة

Sunday 14th of April 2019 07:57:12 PM ,

ذاكرة عراقية ,

شكيب كاظم
سانحة أمين زكي(1920-2017) التي ذاعت شهرتها وسمعتهاالحميدة في الأوساط العراقية منذ عقود،فضلاً عن سمعة شقيقتها الطبيبة لمعان أمين زكي،قبل أن نقرأ هذه المذكرات،فكانتاملء السمع والبصر والاحترام والذكر الحسن،سانحة ماكانت في وقتها كتابة ذكرياتها، لكن للمصادفات أروع الأثر في الحياة الإنسانية،فيحثها أحد أقاربها بمنزلة ابنها وهو السيد مجدي فوزي الخطيب،على تعلم الكتابة بالحاسوب،ودخول هذا العالم الفريد والجديد،

فتدخله على وجل ورغبة،فضلا على تشجيع السيد عبد الغني الدلي، صديق الأسرة وكان وزيرا للزراعة في وزارة الدكتور فاضل الجمالي، وكانت زوجة الجمالي السيدة سارة إحدى مدرسات سانحة في المتوسطة،فتشجعها- كذلك-على مواصلة الكتابة،هي التي ولدت في بيت يهوى القراءة والكتابة،والنظام الذي طبقه الأب الذي كان ضابطا في الجيش العثماني،ولهذا دخلت الفرع الأدبي وكانت تقرأ لكتاب مجلتي (الهلال) و(الرسالة)المصريتين: طه حسين،وعباس محمود العقاد،ومصطفى صادق الرافعي،والدكتور محمد حسين هيكل،وسيد قطب،ودريني خشبة،والمازني وغيرهم،فضلاً عن الآنسة مي زيادة.
كان أبوها يحترم كتابات مي،فضلاً عن شغفه بإنجازات النساء مثل: ماري كوري مكتشفة عنصر الراديوم الكيمياوي،وكان معجبا بقوة شخصية المس كريترورد بل التي أطلق عليها العراقيون اسم (الخاتون) لاحترامها طبائع العراقيين ودورها المؤثر في تأسيس الدولة العراقية الحديثة سنة 1921، هذا الاحترام لعوالم النساء،ترجمه أمين زكي،اهتماماً بحيوات أسرته ولا سيما كريماته،وهو اختار لسانحة دراسة الطب،الذي لم تكن ترغب فيه، إذ كانت تهوى دراسة التاريخ في جامعة بيروت العربية.
أول طالبة مسلمة في الكلية الطبية
لكن رضيت بالطب احتراماً لرغبة أبيها فيصطحبها إلى لجنة القبول المؤلفة من: الطبيب احمد قدري رئيسا وعضوية الطبيب عبد الرحمن الجوربجي،والطبيب مظفر الزهاوي،والطبيب صبيح الوهبي وطبيب إنكليزي واحد، لتكون سانحة أمين زكي أول طبيبة تقبل للدراسة في الكلية الطبية الملكية العراقية،وكانت قد سبقتها بسنوات (ملك غنام) كريمة الصحفي المعروف رزوق غنام الذي رجا الملك فيصل الأول ليقبل ابنته في الكلية الطبية،هي التي تخرجت في المدرسة الثانوية ببيروت،فيوافق الملك لتكون (ملك رزوق غنام) أول طالبة طب في العراق الحديث،فضلاً عن طالبات يهوديات،مما يؤكد التنوع الديني والقومي في العراق.
وإذ تقدم سانحة صورة قلمية لأستاذها الطبيب الجراح صائب شوكت، الذي درسهم الجراحة السريرية،ملقياً محاضراته بالإنكليزية،هو الذي درس الطب في استانبول وتدرب في ألمانية،والمانيته تفضل لغته الإنكليزية،وحديثها عن فراسة وذكاء الطبيب جلال العزاوي،فضلاً عن أستاذها الدكتور هاشم الوتري الذي درسهم أمراض الجهاز العصبي،وسيتولى عمادة الكلية الطبية في سنوات تلت،كما تذكر بالعرفان جهود الدكتور سندرسن،الذي جاء طبيباً مع القوات البريطانية،والذي اصر على تأسيس كلية للطب في العراق برغم معارضة الجميع،وما أيده سوى الملك المبجل فيصل الأول،كان ذلك سنة ١٩٢٧،هذا الاسكتلندي الذي عاش طويلا بعد مغادرته العراق،وقرات في ثمانينات القرن العشرين،مقابلة مجراة معه في إحدى المجلات العربية المهاجرة والصادرة في لندن،ستنهب أثاث داره إثر تداعيات حركة رشيد عالي الكيلاني في شهر مايس 1941!
كما تتحدث عن ابن خالتها (حسين الرحال)الدارس في ألمانية والعائد إلى العراق،ليكون من أوائل من بث الأفكار الماركسية والشيوعية في العراق إلى جانب: لطفي بكر صدقي الذي سيصدر بعد 14 تموز 1958 جريدة اسمها (صوت الأحرار) اغلقها رئيس الوزراء اللواء الركن عبد الكريم قاسم صيف سنة 1960 إثر خلافه مع اليسار العراقي قاطبة،وكذلك مصطفى علي أول وزير للعدل في الزمن الجمهوري وسيقال سنة 1960 للسبب نفسه فضلاً عن عاصم فليح الذي سيتحول إلى تاجر أقمشة في شارع السمؤال وباسم (المقص الذهبي)!
سانحة تقول إنها أحست بخوفه يوم سمع بسحب الجنسية العراقية من صديقيه ورفيقيه الصحفي عبد القادر إسماعيل البستاني وشقيقه يوسف بوصفهما من التبعية الهندية،مؤكدة: لم اسمعه يمدح أحداً،بل يهجو الجميع..فهذا رجعي،وهذا متخلف،وهذاجاهل،وذلك لص..كان يتكلم وكأنه من طينة أخرى! تراجع ص164
حفلة تخرجها
وتنقل سانحة أمين زكي وقائع أول حفلة تخرج في الكلية الطبية شهدتها سنة 1938 ،كانت حفلة رائعة - كما تصفها- وبرعاية رئيس الوزراء جميل المدفعي،وتولى الدكتور سندرسن قراءة أسماء الخريجين،يتقدم الخريج لتسلم الشهادة بعد أدائه قسم (أبو قراط) باللغة العربية،ومن ثم توجه الدكتور هاشم الوتري إلى المنصة لقراءة أسماء المتفوقين الحائزين على الجوائز،وكان منهم الطبيب أكرم القيماقجي، نجل الشخصية البغدادية الفكهة أحمد أفندي القيماقجي، وإذ لم تقم حفلة في السنة التالية 1939 حزناً لحادث الاغتيال المدبر للملك غازي الأول في ليلة الرابع من نيسان، وفي السنة 1941 بسبب حركة رشيد عالي والضباط الأربعة،فإنها تحضر حفلة سنة 1943 التي تخرجت فيها،كانت الحديقة واسعة غناء ترفرف في أجوائها أعلام العراق،وفرقة موسيقى الجيش تشنف أسماع الحضور،باعثة البهجة في النفوس،وحضرها أبوها الوجيه أمين زكي،فضلاً عن والدتها التي أخذت مكانها في القسم المخصص للنساء،لقدكان أبوها باسما فخورا بهذه الثمرة العلمية اليانعة التي ستخدم العراق وأهله،كانت هي والطبيب محمود الجليلي،فرسي رهان،ويتنافسان على نيل الدرجات العالية.
الجليلي محمود الذي تخرج سنة 1943، سيظل تاريخ الطب في العراق يذكر فضله وصنيعه في تأسيسه وتوليه عمادة كلية طب الموصل في السنة الدراسية 1961- 1962،التي ستكون نواة لجامعة الموصل،وما زلت استذكر موقفه العلمي الصارم، إزاء الطلبة الذين غادروا قاعة الامتحان إثر سماعهم بنشوب حرب الخامس من حزيران 1967.
رأيها بالباشا السعيد
تتحدث عن لقائها الأول برئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري باشا السعيد، في بناية القنصلية العراقية في القاهرة،وكانت في ضمن الوفد النسائي العراقي المشارك في المؤتمر الأول للاتحاد النسائي العربي المنعقدبالقاهرة سنة 1941، ولقائه بعضوات الوفد وسؤال كل واحدة منهن عن أحوالها،مما يؤكد متابعته الدؤوب لأحوال الناس،يسألها عن عمها الفنان التشكيلي العقيد محمد صالح وهل مازال يرسم الصور الزيتية؟ ،ثم سأل سرية الخوجة عن عمها رشيد الخوجة،وروز خدوري عن عملها وزوجها،ونزهة غنام عن عملها وأبيها الصحفي الرائد رزوق غنام،وسأل عفيفة رؤوف عن زوجها الكاتب اليساري المعروف عبد الفتاح إبراهيم، ومائدة الحيدري عن بعض أقاربها لأن أباها كان متوفياً.
كان فرحاً بما أنجزته السيدات العراقيات في المؤتمر ملاطفاً الجميع.
تصفه بـ (رجل في بداية الستين من عمره،متوسط القامة،اشيب الشعر،جميل الشكل والصورة (رغم سنه) أنيق في ملبسه،جذاب في كلامه،ذوعينان فاتحتان تشعان بالذكاء الحاد واليقظة،متواضع.طلق المحيا،يبتسم كثيراً وملامح وجهه جذابة ومريحة،يتكلم بصوت ذي بحة خفيفة لطيفة،وكان مؤدبا جدا في أحاديثه البغدادية الأصيلة،ويتباطا في انتقاء الألفاظ مع الآخرين،وأحياناً يرفع كفه حول إحدى أذنيه وكأنه يشكو من ضعف في السمع،(...) لقد كنا جميعا نستمع إليه ولا نريد أن يفوتنا شيىء مما يقوله"" ص285
أسلوب جيد في الكتابة
إن كتاب ( ذكريات طبيبة عراقية) سرد لوقائع الحياة العراقية منذ أواخر العهد العثماني،ومن ثم تأسيس الدولة العراقية الحديثة،التي تولى بناءها الأكفاء والمخلصون سواء العراقيون أو الذين قدموا مع الملك فيصل من بلاد الشام ولبنان وخبر كفاءاتهم أثناء حكمه القصير في الشام،كان هدفهم انتشال العراق من وهدة التخلف العثمانية،وبعيداً عن التحزب الذي عصف بالعراق في سنوات تلت،هذا الكتاب الذي دونته الطبيبة سانحة أمين زكي بأسلوب جيد،لعله بعض أثارقراءات فتوتها وشبابها الأول،هي المحبة للثقافة والأدب،فهم أسرة قارئة،وأبوها يرفد مكتبة البيت بالمجلات والكتب المصرية،فضلاً عن أمها السيدة فوزية صالح الهرمزي،التي دخلت عليها مرة لتجدها تمسح دموعها،لقدكانت أمها تقرأ في كتاب (العبرات) للأديب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي،لكن شابت الكتاببعض الأغلاط النحوية،وكان يفضل عرضه على مختص باللغة،او أن تتولى الدار الناشرة ذلك احتراما لسمعتها ومطبوعاتها فما كل من يكتب حاذق في اللغة،كما لمست- من خلال القراءة- توقد ذهنها وتألق ذاكرتها،لكنها وهمت إذ ذكرت في الصفحة ٢٧٨ ما نصه"وقد كان المصورون في الحفلات يصورونني مع الباشا ومع علي جودت ومع توفيق السويدي وغيرهم من الوزراء،وكنت احتفظ بالصور للذكرى،ولكن الأستاذ يحيى قاسم نشر صورتي مع الباشا في جريدته ( الحوادث)".
أقول: إن الصحفي الرائد يحيى قاسم أصدر جريدة اسمها (الشعب) أما جريدة (الحوادث) فقد أصدرها الصحفي الرائد عادل عوني،وقد أوقفتا عن الصدور بعد تموز ١٩٥٨،فضلاً عن جريدة (العمل) التي أصدرها الدكتور محمد فاضل الجمالي،وكان يوشح عنوانها بالآية القرآنية الكريمة" وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".