الدكتور كمال السامرائي يتحدث عن رحيل الوتري

Wednesday 22nd of May 2019 06:50:58 PM ,

عراقيون ,

د . كمال السامرائي
في ظهر اليوم الثاني عشر من شهر كانون الثاني سنة 1961 كانت السماء ملبدة بالغيوم ، والشمس لا تطل برهة حتى تعود وتختفي بعد قليل ، وبوادر المطر تقترب زاحفة بسرعة ، في صباح اليوم توفي استاذي هاشم الوتري عن عمر بحدود ثمان وستين عاما (كذا) ، وحين ذاع خبر وفاته وصلت بالتتابع عشر سيارات تقل اصدقاء الفقيد لتقف بغير انتظام امام داره . وترجلوا منها وتوجهوا مسرعين الى داخل بيت المتوفي توقيا من المطر ،

وكان اكثر هؤلاء من ال الوتري او اصدقائهم واقلهم من زملاء الفقيد في كلية الطب . وحين حمل جثمانه الى سقف السيارة ازداد هطول المطر فاسرع المشيعون يتقوه بالدخول الى سياراتهم ، بينما كان بعض منهم يثبتون النعش على سقف السيارة ، ودرج الموكب متعجلا حزينا نحو مقبرة ال الوتري الواقعة على تل قرب (كمب الارمن) .وما كدنا ندلف الى المقبرة من بابها الوسيع تحت لافتة صغيرة تشير الى تبعية هذه المقبرة الى ال الوتري حتى توقف المطر ، وكأن السماء قد فعلت ذلك احتراما للمتوفي المسجى في النعش .. وما كدنا نواري استاذنا الوتري التراب ونستعد لمغادرة المقبرة حتى عادت السماء تمطر مدرارا ، فهرول المشيعون الى سياراتهم وهم يلتفتون الى فقيدهم الذي واروه التراب .. رحم الله استاذنا الدكتور هاشم الوتري واسكنه فسيح جناته .

يوم اربعين الوتري
في صباح يوم 6 شباط 1961 ادركت كم هو القبر موحش ، وكم كان سريعا ما ينسى المرء احباءه ، وزملاء عمره ، واساتذته ، وذوي الفضل عليه ، اذا توفاهم الله .
هذا اليوم هو الاربعون بعد وفاة الاستاذ هاشم الوتري احد مؤسسي كلية الطب ببغداد ، والمعلم الاول في الطب الباطني فيها ، فأرتأت عمادة كلية الطب ان تقيم حفلا تابينيا بمناسبة هذا اليوم ، فاقامت الحفل في قاعة السينما في الكلية ، وهي القاعة التي بناها الاستاذ الوتري ايام عمادته في الكلية ، وهي اكبر قاعات الكلية لتستوعب من يحضر هذا الحفل من زملائه وطلابه . وكانت المفاجأة غريبة ان يكون عدد من حضر الحفل من القلة ما يستدعي العجب ، كان من الحاضرين زميل له في المجمع العلمي العراقي هو الاستاذ منير القاضي ، ونقيب الاطباء الدكتور كمال عارف وعميد كلية الطب الاستاذ الدكتور احمد عزت القيسي .
وعدد قليل جدا من اساتذة كلية الطب وطلبتها . وكان اول من تكلم في تأبين الفقيد الاستاذ منير القاضي فقال في فاتحة كلمته انه كان يحث سائق سيارته ان يسرع ليصل الى هذه القاعة ، فقد ( لا اجد كرسيا شاغرا لي اذا تاخرت عن الوصول اليها مبكرا ، فاذا بالقاعة تكاد تكون خاوية بالنسبة لسعتها وعدد كراسيها ) ثم تكلم بجد والم عن فقد زميله الوتري لمكانته العلمية في المجمع العلمي ، وطلب له الغفران من الله تعالى والغفران والرحمة لمن لا يفي لاساتذته وزملاءه .. وهي اشارة مفهومة . لقد كان الحفل باردا مع الاسف لم يظهر فيه ما يدل على العرفات بالفضل والجميل للفقيد الوتري ، وتفرق من حضر الحفل وكأنهم خجلون مما فشلوا باقامته لميتهم الاستاذ الكبير هاشم الوتري .
الوتري في بيتي 20 اب 1960
زارني في بيتي الملاصق لمستشفى السامرائي الاستاذ هاشم الوتري ومعه صديقي الدكتور اسماعيل ناجي . وكنت صممت هذا البيت بنفسي ، وادخلت في بنائه بعض اللوحات الزيتية وخصوصا في اشكال المنافذ التي نقلتها عن الزخارف الجصية التي كنت رأيتها في اطلال سامراء ، وابدعت في تصميم المدفأة ( الاوجاغ ) وبنائها بحجر الحلان الموصلي ، فاعجب بها الاستاذ هاشم الوتري ، واطال النظر اليها وعلى وجهه تعبير من يريد ان يقول شيئا ، ونهض وخطا في الصالون لينظر اليها من بعيد ، ثم اقترب منها واقفا وهو يقول لي :
ـــ كمال هذا شيء جميل وان تصميمها يوحي بالدفء حتى لو لم تكن فيها نار موقدة ، والعامل الذي نحت حجارتها فنان مقتدر ( وسكت قليلا ) ثم عاد يقول وهو يمر باصبعيه على شفته العليا ، وهي عادته اذا خلا بنفسه يفكر ، ثم قال :
ـــ ليس مكان هذه المدفأة في هذا البيت !
واستغربت من هذه الملاحظة ، غير اني ما لبثت ان ارتحت لها حين استطرد يقول :
ـــ يجب ان تكون هذه المدفأة في محل عام ، ناد او قاعة شعبية يدخلها عامة الناس ومن كل الطبقات ، انها درس مفتوح ميداني لتربية الذوق والناقة .
وفهمت قصده وعددته ثناء على المدفأة وبالتالي على شخصي وهاشم الوتري له ذوق رفيع في ملبسه واثاث بيته وفي حديقته . وهو اول من امتلك سينما خصوصية من اهالي بغداد ، يعرض بها بعض الافلام التي يستوردها من لندن ، واول من استورد الى حديقته اوراد الزينة من مشاتل فرنسا ، واول من ابتنى حوض سباحة في بيته .
وعاد هاشم الوتري يحدثني عن المدفأة
ـــ كمال ، هذه المدفأة كالمرأة الجميلة وكلاهما يجب ان لا يستأثربهما بيت واحد ورجل واحد ، بل يجب ان يعرض جمالها للناس عموما . واستطرد يقول وهو يوسع ابتسامة على فمه:
ـــ حين خطب الامير مصعب بن الزبير عائشة بنت طلحة وكانت من جميلات نساء العرب ، اشترطت عليه ان لا تحجب وجهها عن الناس ، فنعمة الله عليها بالجمال يجب ان لا تخفى على عباده . وقبل مصعب بن الزبير بشرطها وتزوجها . وهذا هو سلطان الجمال في المرأة .
وبعد بضعة سنوات شيد الاستاذ الوتري داره في عرصات الهندية المطلة على نهر دجلة . وزرته لابارك له داره الجديدة ، وكان في صالونه مدفأة مشيدة من الطابوق المشوي ، وعلى طول غطائها جذع شجرة متناسقا معها ومريحا للنظر ، فقلت له وانا اشير الى هذه المدفأة :
ـــ هذه مدفأة تفوق المدفأة التي في بيتي روعة وابداعا .
ـــ ساطلب ممن يحفر على هذا الجذع اية كريمة ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) ..تعال ارك شيئا اخر في هذا البيت مكملا لهذه المدفأة ولو على النقيض ، كما يكمل الليل النهار في اليوم الواحد ، وهكذا في بيتي نقيضان متلازمان ، واخذني الى حديقة داره الخلفية التي كانت اعلى من ارض بيته ،وبينها وبين البيت سطحية ليست واسعة ، يسمع من جنوبها خرير ماء يتدفق من صخور مدفونة تحت الحديقة .
ـــ استاذي ، ان هذا شيء جميل حقا ، ومبتكر ، فكأن الماء يتدفق من عيون في عمق جبل .
وهاشم الوتري سريع الجواب بما لايقاطع سياق الحديث ، فقال :
ـــ الماء يجلو الحزن ، وفي هذا المكان اخلو مع نفسي لأقرأ او اكتب او لكي لا اعمل شيئا .