أول رئيس للوزراء في حياته الخاصة نقيب بغداد وهوس النظافة

Sunday 9th of June 2019 08:15:48 PM ,

ذاكرة عراقية ,

رفعة عبد الرزاق محمد
عرف السيد عبد الرحمن النقيب الكيلاني ( توفي يوم 12 حزيران 1927 )بمزايا كثيرة ،جعلته شخصية بغدادية متميزة عن الاخرين ، الا ان شهرته اقترنت بمنصبه السياسي الرفيع الذي تسنمه في سنواته الاخيرة ، وهو منصب رئيس الوزراء في اول حكومة عراقية في تاريخ العراق الحديث ، وهي الوزارة التي وسمت بالمؤقتة ، فضلا عن كونه نقيب اشراف بغداد .

ولعل الاجيال الطالعة التي شغفت بالتفاصيل الشخصية سيسرها لو علمت ان عبد الرحمن النقيب كان يحرص على شراء الكتب وتجليدها بشكل جذاب ، وكان له مجلد خاص به يدعى (حياوي) ، وتزخر المكتبة القادرية ببغداد بهذه التركة الخطية الثمينة . كما كان يحب المصارعة الشعبية ( الزورخانه) وتربية الخيول العربية والعناية الفائقة بالزراعة . اما اهتمامه بالمقام العراقي فقد كان كبيرا ، ومن الطرائف التي تروى انه كان يوما جالسا في شرفة داره المطلة على نهر دجلة ( منطقة السنك) وصادف ان مرّ زورق كان صاحبه يقرأ المقام بصوت عال ويتخبط بضبط اصول المقام ، فاذا بالنقيب يصيح عليه ان يسكت ويسمع ، فقرأ له المقام بشكل اصولي.
وكان يختلف الى مجلسه الذي كان يعقده في ديوان الحضرة القادرية ( الداركاه ) مختلف طبقات الناس من علماء وادباء وامراء واعيان وتجار وساسة ورؤساء الطوائف والملل وزعماء القبائل ، اضافة الى عامة الناس . وكان رحمه الله يتمتع بألمعية ادبية وعلم غزير مما جعله من انداد العلماء والادباء . وقد ذكر ان له مؤلفا باسم ( الايام الشداد من تاريخ بغداد ) لا يعرف عنه سوى اسمه ولعل احدا يعرف مصيره فينورنا بامره .
ومن عاداته الطريفة التي اشتهرت على الالسنة ، هوسه الكبير بالنظافة ، وقد دفعه هذا الهوس الى التوجس من مسك اي شيء قبل معرفة درجة نظافته ، ومن ذلك تجنب ملامسة اليد او المصافحة ، وقد ذكرانه عندما يضطر الى مصافحة احد يبقي يده بعيدة عن جسمه الى حين مغادرة الشخص فيسرع الى غسلها . وقد اوكل الى احد خدمه بفتح الرسائل التي ترده ، ولا يشرب من الماء الا اذا تأكد من كونه قد جلب من منتصف النهر . ومن الطرائف ان صديقه الحميم السيد محمد سعيد ال مصطفى الخليل ( ت 1927 وهو من وجهاء الكرخ )داعبه عندما وجده حائرا امام مخطوطة نادرة عرضت عليه فقال له : بسيطة .. اغسلها بالماء .
وقد اطلعت في احدى المجاميع المخطوطة ، وهو كتاب (الكنز الصالحي ) ، ان الشاعر عبد الحسين الحويزي كان قد زار بغداد في اوائل العشرينيات ، فصحبه صديقه الشاعر الكبير الزهاوي الى بيت السيد عبد الرحمن النقيب، وعند دخولهما الى مجلس النقيب بادر الزهاوي مخاطبا النقيب :
ــ ايها النقيب الجليل جئتك بدرة يتيمة من درر النجف .
فتقدم الحويزي وقدم يده لاجل مصافحة النقيب غير ان النقيب لم يعطه يده واكتفى بقوله :
ــ اهلا وسهلا .
ويبدو ان الحويزي امتعض من ذلك ولم يكن يعرف طبائع النقيب فخاطبه مرتجلا :
لم تخش سطوتك العليا وان عظمت
لا يرهب الباز شخص جاره الاسد
والليث والد ذلك البــــــــــاز اكرمنا
من طيب جدواه حاشا يبخل الولد

فابتسم النقيب وصارحه نجله محمود حسام الدين بان والده يعتريه الوسواس ولا يصافح احدا .
على ان اطرف ما جرى في هذا ، كان مع السيد طالب النقيب ، الشخصية البصرية الشهيرة ،فعندما غادر طالب النقيب العراق منفيا يوم 16 نيسان 1921 وعاد اليه في الاول من ايار 1925 ، اختط لنفسه خطة كان بمقتضاها قليل الاختلاط بالناس ، وبقي كذلك الى ان تدخل احد اقربائه وهو السيد هاشم الرفاعي فاقنعه بضرورة زيارة الملك فيصل الاول ( القصة بتفاصيلها تجدها في كتاب هاشم الرفاعي ، ذكرياتي ، بغداد 1939 ، ص 3ــ 11 ). وعندما جاء طالب الى بغداد استقبل بحفاوة اجتماعية وكان اخرها وليمة السيد عبد الرحمن النقيب ، وكانت وليمة خاصة لم يحضرها عدا طالب النقيب سوى الشيخ صالح باش اعيان وهاشم الرفاعي .
ولما كان السيد عبد الرحمن النقيب يتطير من العدوى ولا يصافح يدا مهما كان صاحبها ، ولكن السيد طالب المعروف بجرأته جرّ يد النقيب بالقوة وقبلها على الرغم من صاحبها . يقول الرفاعي : ولم يكد السيد طالب يجتاز غرفة نقيب بغداد الا وهبّ الشيخ من مجلسه فتخطى عدة خطوات ورغم شيخوخته وهو فرح يرحب بـ ( ولده ) و ( حبيبه ) و ( قرة عينه ) ، ورفع النقيب ذراعه الايمن وتلاه بالايسر ليطوق بهما ولده المحبوب في الروح ويعانقه .. بيد ان السيد طالب النقيب صارح نقيب بغداد الهاديء بما ازعج وافزع :
ــ انك برفعك لذراعيك لا تريد عناقي بل تريد ان تبعدهما عني ، كما بعدت عني يوم محنتي ، اليس كذلك يا عم ؟ هات يدك واغسلها بالصابون بعد ان تخرج منك ان شئت ، وجرّ يده اليمنى فقبلها .