اسيا جبار وذكرياتها

Tuesday 11th of June 2019 08:43:42 PM ,

منارات ,

سعد محمد رحيم

في كتابها (بوابة الذكريات)* يوغل وعي آسيا جبار عميقاً إلى جوف الكينونة.. إلى بئر الليبيدو التي منها ينبثُّ نور الوجود. النور الصانع لتلك التشكيلة المبهرة من الضوء والظل حيث صورة الحياة المجسّمة، الرجراجة.. السعي لالتقاط لحظات الدهشة الأولى، لذة اكتشاف معنى أن تكون ذاتاً مع الآخرين، ومائزاً عنهم..

إنها تتحرى عن الأسرار الخبيئة الوحشية والبريئة، من غير مواربة وخوف غالباً، وبمناورات مجازية قليلاً، في محاولة للإمساك بجذر الأشياء والمشاعر والرغبات، كما لو أن العنوان الملحق، الثاوي بين الصفحات هو: حكاية جسد في العالم.. مروية جسدها باستحالاته الطبيعية والعاطفية والرغبية.

تستخدم المؤلفة لغة مهموسة، حادّة، ورهيفة كالشفرة، لتُحدث جروحاً صغيرة في جلد ذاكرتها، لتقترب، وهي تعيش مسرّات الاكتشاف ـ أو بالأحرى إعادة الاكتشاف ـ والاعتراف، من ذاتها؛ عقلاً وجسداً وروحاً.. أن تعرف كيف حصل الأمر عبر حسّها المغموس باستعارات اللغة وكناياتها، المتبّل بالشعر، والمعروض في صور تثير الفضول، وتعطي وعوداً بمتعٍ خارقة.
هو كتاب عن نمو الوعي وتكوّنه، فوعي الأنا ينبثق على مهل، مع كل تجربة عابرة، مع كل مغامرة صغيرة أو كبيرة، مع كل انتهاك لنواميس ومواضعات مجتمعية قارّة. فثمة مسحة إيروتيكية للكتاب، قشرة خفيفة وامضة، لكنها مهذّبة، مثقّفة، هادئة، غير منفرة، غير متطلبة بإفراط، طبيعية جداً، متسائلة أحياناً، مفعمة بالرقّة، ببعض الخشية، وبنزر يسير من الحياء الشرقي.
تستعيد آسيا جبار بعضاً من التفاصيل الدقيقة لتحوّلات جسدها من طفلة إلى مراهقة، وشابة، إلى امرأة في أواسط العمر، ومن ثم لمّا تغدو في عمر الكهولة، وأخيراً حكيمة على أبواب الشيخوخة... تستحضر ثانية تلك الانتفاضات التي تثبِّتها، في النهاية، جسداً ـ ذاتاً في العالم.. الجسد الذي يتشبّع بالإيقاع فيرقص، ويضيق ذرعاً بمكبوتاته فيتعرى حتى وإن جزئياً بظهر وصدر مكشوفين قليلاً أمام أعين القريبات في الأعراس، حتى وإن في الفراش ـ في وحدتها ـ حتى وإن في أحلامها غير الفاحشة. وجسد الأنثى الموشوم، باعتبارات العفّة والشرف العائلي والستر، والمحبوس بين جدران البيت لهذا السبب، لابد من أن تجد كوى للتنفيس كي لا يذبل وكي لا يختنق. فيما الرقص أمام المرايا، أو في الأعراس العائلية، قد يكون اختباراً لإعادة الثقة بالنفس، وتمريناً أولياً لمواجهة شرور الدنيا فيما بعد.

من مقالة (بوابة الذكريات لآسيا جبّار:
لغة مهموسة وقليل من الحياء الشرقي)
سبق أن نشرها الراحل سعد محمد رحيم
في صحيفة العرب اللندنية