الجواهري صحفيا..جريدة ( الانقلاب ) ومحاكمة الشاعر الكبير سنة 1937

Sunday 16th of June 2019 08:08:55 PM ,

ذاكرة عراقية ,

عباس غلام حسين
كان الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري يرى في رجال انقلاب 1936 ووزارة حكمت سليمان أشخاصاً مناوئين للاستعمار وأعوانهم وهم كذلك يشاطرونه في الاتجاهات والآراء ، لذلك تقدم الجواهري بطلبٍ الى وزارة الداخلية للحصول على امتياز لإصدار جريـدة مع أحد أصدقائه

وهو الأستاذ الأديب "مصطفى علي" وكانت الجريدة باسم "الانقلاب" ، وفعلاً حصلا على امتياز الجريدة وصدر عددها الأول في 25 تشرين الثاني عام 1936(وكانت الأعداد الأولى للجريدة تفصح عن تأييد للانقلاب ومتجهة كل الاتجاه له وناطقه بلسان صاحب الانقلاب الحقيقي)

ويقول عبد الكريم الدجيلي "حين حدث الانقلاب أندفع الجواهري بكل قواه لمساندته وسرعان ما أصدر جريدته تلك وكان المفروض أن يفوز بعضوية المجلس النيابي خاصة ورئيس الوزراء حكمت سليمان وجعفر أبو التمن وزير المالية على صلة وثيقة به الا ان صالح جبر ، وزير العدلية ، وقف نداً حال دون دخوله الى البرلمان الجديد .
وبمرور الايام لم يلمس الجواهري أي تغيير في الحكومة الجديدة ، رغم مساعيه مع الآخرين في الدعوة للإصلاح وتضمين الجسد السياسي بعناصر جيدة وجادة ، وبدأت الخشية والحذر تنتابه من فشل جميع المساعي الرامية للإصلاح أولاً وفشل طموحهِ في الفوز بكرسي النيابة ثانياً ، وبدأ عندها يكشف عن خشيتهِ هذهِ ولاسيما في مقال أسماه "ماذا بعد خمسة أشهر" مؤكداً أن لاتغيير طرأ على البلد ولم تحرك السياسة الانقلابية ساكناً تجاه الشعب ومواقف الحياة لديهم ، ورثته عن الوزارة السابقة ليذهب للقول "لكن الحقيقة مرة ولكنها على كل حال حقيقة آمال المخلصين المتعلقين بهذهِ الوزارة ، وان ما كان ينتظر ان يتم على يد الانقلاب أضحى وكأنه سحابة سوداء من التشاؤم وأن من كان يظن ان الإصلاح الفعلي الذي ينال من صميم الأوضاع الاجتماعية ليحقنها ويمس حياة الفرد العراقي في كل نواحيه الفاسدة ، ظل محل شك وخوف من بقاء كل شيء قبل الانقلاب" .
على الرغم مما تقدم لم تدم علاقة الجواهري مع رجال الإنقلاب ودية ، فسرعان ما أخذ يوجه نقده اللاذع لهم متهماً أياهم بتخليهم عن الوعود ، وصادف أن حصلت قضية جعلت الشرخ واسعاً بين الجواهري والانقلابيين وخلاصتها أن حركة احتجاج حدثت بين أفراد الطبقة الفقيرة من أبناء الطائفة اليهودية في بغداد ضد ارتفاع أسعار اللحوم التي يشترونها من الجزارين اليهود الى درجة أن المحتجين هددوا بشراء اللحوم من الجزارين المسلمين فما كانَ من الجواهري الا أن يساندهم في هذه القضية، التي سميت فيما بعد بقضية "الكاشير والطاريف" فأدى ذلك الى إضراب أكثر اليهود عن شراء لحوم الكاشير ومن ثم زعزعة موقف "الحاخام" ساسون خضوري رئيس الطائفة اليهودية في العراق ، فذهب هذا الرجل ليبذل كل مابوسعهِ من جهود لايقاف حملة الجواهري في أمر هذه المقالات التي شنتها جريدته وبعد محاولات متعددة فضلاً عن تلويحهِ للجواهري بالمال ليكف عن تحريضهِ لهم، أخذ الجواهري يساندهم أكثر من ذي قبل مما أضعف ذلك المسعى وحمل فضلاً عن ذلك رئيس الطائفة الى أقامة الدعوى في المحاكم ضد صاحب جريدة الانقلاب بتهمة التحريض ، لتلقى تلك التهمة آذاناً مصغية لدى الحكومة المذكورة وتصادر عدد الجريدة الخاص بالكاشير والطاريف، وتلقي بالجواهري في التوقيف بتهمة إثارة الرأي العـام ، ثم إن رفض رئيـس المحكمة إطلاق سـراح الجواهري بالكفالة المعتادة في كل القضايا مما يعزز القول ان توقيف الشاعر جاء بإيعاز من لدن الحكومة نفسها .
حكم الجواهري بالسجن مدة شهر بهذهِ التهمة ، وعوطلت جريدته قبل المحاكمة لكن الجواهري لم يضبط أعصابه من قرار الحاكم فهتف في قاعة المحكمة أحتجاجاً على قرار المحكمة ضدهُ عاداً هذهِ المحاكمةبأنها غير عادلة بحقهِ وأنها كانت متحيزة فثارت ثائرة الحاكم فضاعف له الحكم بتهمة إهانة المحكمة الى شهرين ، انقصت بعد ذلك الى خمسة وأربعين يوماً بعد أن قُدمَ استئنافاً ، قضى معظمها في المستشفى لاعتلال صحته.
وصلت أنباء حبس الجواهري الى مختلف أطياف الشعب من المثقفين والمهتمين بشعر الجواهري وكذلك الرأي العام ، فقد كرست إحدى جلسات المجلس النيابي في اجتماعه غير الاعتيادي لسنة1937 عن الشاعر ، اذ تطرق أحد النواب سائلاً رئيس المجلس عن سبب توقيف الجواهري وعدم إطلاق سراحهِ بكفالة طوال مدة التوقيف دون توجيه تهمة محددة ومقنعة في الوقت نفسه ، واثار هذا الموضوع نوعاً من الجدل بين النواب ورئيس المجلس في داخل قاعة الاجتماع وكذلك الأمر مع مدير الدعاية آنذاك حسين جميل الذي أكَدَ أنّ المقال الخاص بموضوع الكاشير غير مثير للرأي العام حتى يؤدي الى اغلاق الجريدة قبل محاكمة الشاعر الجواهري .
تعددت وجهات النظر حول سبب غلق جريدة الانقلاب ، فمنهم من يرجح سبب غلق الجريدة الى تحامل حكومة الانقلاب على مقالات الجواهري الأخيرة ومن جملتها "بعد خمسة أشهر" و "حصة الشباب في عهد الانقلاب" و "قدموا أحلمكم ان صديقكم من صدقكم" ومقالات أخرى نشرتها جريدة الانقلاب بأقلام أصحابها وبأسمائهم مما أدى الى اعتقالهِ ايضاً ، ويذهب آخر الى القول عن إنها المقال المنشور في الجريدة بعنوان "مذكرات سجين" لأحد الكتاب وهو سلمان الصفواني الذي تحدث عن ثورة الفرات الثانية ويرجح آخر أن السبب في حبسهِ يعود الى قضية الكاشير والطاريف وهو مخالف للرأي الأول .
وعلى الرغم مما تقدم يمكن القول إن هذهِ الأسباب وجدت طريقها لتنال من الجواهري وتؤدي الى توقيفه بسبب انقلابه على رجال الإنقلاب وسحب تأييده لهم ووقوفه الى جانب الجماهير ومطالبته بحقوقهم المشروعة فاستغلت ؛ الحكومة الموقف لكي تنال منهُ ، ونعود القول أن الجواهري كان حذراً في تأييده للانقلاب ومرهوناً بما يحققه من مكاسب على الرغم من اندفاعاته الأولى، وحال انفراد بكر صدقي بالسلطة واستقالة الوزراء الإصلاحيين انقلبت مواقفهِ وأصبحت الى جانب الجماهير .
بعد فشل وزارة حكمت سليمان في تحقيق طموحاتها واستقالة "رئيس الحكومة" ومقتل بكر صدقي ، شرع جميل المدفعي بتأليف وزارته الرابعة في آب سنة 1937 ، وأعتمد سياسة إسدال الستار على الأحداث التي رافقت حكم بكر صدقي وتناسي الأحقاد المترتبة عليها ، فقد سمحَ جميل المدفعي للسياسيين خلال المدة السابقة بالعودة والعفو عن قتلة بكر صدقي لذا عادَ الصراع بين اليمين القوي واليسار الذي لايملك من السلاح سوى الفكر والإصرار وهنا كتبت جريدة الإنقلاب بشأن الوزارة الجديدة مقالات افتتاحية حذرة منها "الشعب يريد الاستقرار" واتبعتها بشبيهة لهاأيضاً عنوانها "واجب الحكومة الصالحة" وكتبت مقالة ثالثة في "ضرورة تنظيم جبهة وطنية موحدة في العراق" مؤكدة فيها أهمية توحيد وجهات النظر السياسية استناداً الى تطورات العالم الراهنة التي لايمكن للعراق ان يكون بمعزل عنها وعليه يجب على "العراقيين" أن يوحدوا صفوفهم مثلما فَعَلَ الزعماء السياسيون في العالم حين وحدوا جهودهم لوقف تحركات المستعمرين ووضعوا خلافاتهم جانباً . ودعت الجريدة مرة أخرى الى ضرورة حماية الانتخابات من التشويه ، وتوفير جو ديمقراطي للمنتخبين ليختاروا ممثليهم الحقيقيين .
لم يعمد الجواهري الى إصدار جريدته الانقلاب ثانيةً وبعد أن سقطت حكومة الانقلاب أصدر جريدة أخرى في 6أيلول سنة 1937 تحملُ أسماً جديداً وهو "الرأي العام" التي عرف بها الجواهري أكثر من غيرها من الصحف التي أصدرها ، اذ استمرت في الصدور حتى اوائل عام 1961.

عن رسالة (محمد مهدي الجواهري ودورهُ السياسي
في العراق حتى عام 1997) ،