فوزي كريم: موالاة الخبرة الروحية في الحداثة

Wednesday 26th of June 2019 07:57:43 PM ,

عراقيون ,

نادية هناوي
على الرغم من أن الشاعر الراحل فوزي كريم شاعر حداثي، وهو أحد أقطاب البيان الشعري الذي حمل منظموه لواء الحداثة الحقة، إلا إنَّ له فهمًا خاصًا لهذه الحداثة، أثبته في كتابه «ثياب الإمبراطور الشعر ومرايا الحداثة الخادعة».

الحداثة عنده ليست التطلع إلى التجديد تأثرًا بالغرب؛ وإنما هي التجدد اتصالا بالتراث الشعري العربي، الذي في منابعه الإبداع وفي جذوره الابتكار. وكأنه في هذا التوجه يساند نازك الملائكة في دعوتها للارتقاء بالشعر بلا قطيعة مع الموروث أولًا وبالاكتراث بالشعرية العالمية ثانيًا. هذه الدعوة التي أخذتها عليها المؤسسة النقدية التي راحتْ تتفنن في توصيف مشروعها الشعري بأوصاف سلبية، من قبل النكوص والانكفاء والسلفية إلى آخره من أوصاف حجمت فاعلية الملائكة الإبداعية، وشككت في أثرها في التحديث الشعري، حتى هشمت تطلعاتها النقدية والشعرية.
وما بحث فوزي كريم عن الأصالة في الشعر؛ إلا كبحث نازك الملائكة عن قصيدة لا تتنكر للموروث العربي، ولذا رفض فوزي كريم وصف شعره بالحداثي، إذ قال: «إن كتابة قصيدة غير حداثية أكثر ملاءمة وتطابقا مع طبيعتي كشاعر، ومع المرحلة التي انتسب إليها» (ثياب الإمبراطور).
والغريب أن المؤسسة النقدية لم تؤاخذ فوزي كريم، ولم تذهب معه مذهبها مع نازك الملائكة؛ أفلأن النقد متاحٌ للشاعر أن يمارسه، وغير متاح للشاعرة أن تمارسه؟ حتى إذا جربتْ الشاعرة أن تكون ناقدة، وُسم نقدها بالأسلفة، وقوبل بالنسف والتقريع تقليلا وانتقاصا؟ وعلى الرغم من اختلاف التجربة الشعرية لدى نازك عنها لدى فوزي كريم، لكن نقدهما يظل متقاربا. وهذا ما يدلل على أن هناك تبكيتا جنوسيا يؤاخذ الشاعرة وينتقص جهدها، بينما يعاضد الشاعر ويؤازره. وسيزول استغرابنا بإزاء هذه المقابلة بين التجربتين، إذا علمنا أن النموذج الشعري الذي تطلع إليه فوزي كريم هو نفسه نموذج الملائكة المتحرر من اللهاث وراء التحديث الغربي، والمنشد للالتفات إلى حقب الشعر العربي الزاهرة. وإحدى الوسائل الموصلة إلى هذا النموذج هي اللغة، التي هي عند فوزي كريم كائن يتعامل معه إما برفق ولين، وإما باحتيال ومراوغة، ولأن اللغة ليست معزولة عن الواقع السياسي والاجتماعي؛ فإن أصالة الشعر تقتضي الارتفاع باللغة عن سيئات واقع متردٍ تراجعا ومرارة.
ولا ضير أن تكون النظرة للحداثة بهذا المفهوم تعني النمطية وتوسم بالكلاسيكية، ما دامت الحداثة، كما يرى فوزي كريم لا تعني الادعاء مزدوج النية بين تحطيم المؤسسة العتيدة والخروج عن عبوديتها، والانشداد إليها والتقيد بقوانينها. فمثل هذه الحداثة جوفاء لأنها مجرد سحر كلمات لا غير، وتضخم أنوات، وحالة مرضية تفضي إلى الازدواجية بين حرية جامحة وجنون وارتباط عقائدي ومصالح ذاتية وصراخ في وجه العالم.
والسؤال هنا لماذا وقف فوزي كريم هذا الموقف المرتاب من الحداثة؟ لماذا شكك في أمرها ورآها غريبة علينا؟ وهل أن في المناداة بالحداثة ذرائعية ما بعد الحداثة؟
إن الحداثة التي يقصدها فوزي كريم هي نفسها التراث حين تلتقي به المعاصرة. وهي الإحساس بالخبرة حين يخلو هذا الإحساس من الازدواج. وهي الوصل بالموروث الشعري، وليست الهوة بين الجسد والروح، التي عالجها فوزي كريم بما سماه الخبرة الروحية.
وبهذا الفهم تكون الحداثة معروفة عند الشاعر العربي القديم في جاهليته وإسلاميته وأمويته وعباسيته، تماما كما عرفها الشاعر الحديث، متعاطيا التحديث الأصيل الذي هو نمطي كلاسيكي، وقد مثله السياب الذي طوّر القصيدة القديمة أو متعاطيا التحديث المهجن الذي هو غربي، وقد مثله أدونيس الذي استبدل القصيدة القديمة بالقصيدة الجديدة كما يرى فوزي كريم. والسؤال هنا ما الذي جعل كريم يعد حداثة السياب وأدونيس حداثتين مختلفتين؛ ألم يكن الشاعران ملتفتين للشعر العربي القديم ومتطلعين للشعر الغربي؟
يبدو أنّ حداثة الشعر الغربي هي في منظور فوزي كريم نمطية على الفهم الأرسطي ذاته؛ بينما الحداثة اللانمطية هي تلك التي تخلصت من الإرث الكلاسيكي وتطلعت للأمام لتكون ما بعد الحداثة. وبذلك تفهم الحداثة على أنها الرضوخ للتنميط الأرسطي وتغدو ما بعد الحداثة هي الثورة ضد التأقلم والتنميط. وهذا ما أراده فوزي كريم للشعرية العربية، ويعد البيان الشعري واحدًا من تجليات تلك الإرادة. فليس التأثر باليوت وكيتس ووردزورث وبايرون سوى نمطية أرسطية، محصلتها شعر لا حداثة فيه، بينما الارتكان إلى التراث الشعري العربي هو الموصل إلى شعر حداثي. بمعنى أن الحداثة ليست مرحلة تبدل ثوبها كل آن، وإنما هي متجددة في الثوب ذاته الذي ارتدته عند ولادتها.
السؤال هنا ما الذي جعل كريم يعد حداثة السياب وأدونيس حداثتين مختلفتين؛ ألم يكن الشاعران ملتفتين للشعر العربي القديم ومتطلعين للشعر الغربي؟
وهنا نتساءل لماذا نمذج فوزي كريم بالسياب، مارًا مرورًا متريثًا أو عابرًا بعبد الوهاب البياتي والبريكان والعزاوي ولم يخصص للملائكة جانبا من كتابه؟
قد لا يكون من سبب وراء النمذجة التي اختارها فوزي كريم، لكن وجود شاعرة بين عديد شعراء رجال كان جديرا بالوقوف عنده، لاسيما أن في تجربتها نمذجة رائدة على حداثة القصيدة بالمفهوم الذي آمن فوزي كريم نفسه به.
والمدهش أن مقت فوزي كريم للحداثة تعداه إلى ما بعدها، وذلك حين يكون معناها القلب للأصول والتشتيت للجذور والتنصل للمنابع والعيون. إذ أن ما يجعل الحداثة دائمة في تجددها، هو عدم قطيعتها مع الموروث الشعري. بما يجعل التواصل معه مفضيا إلى التلاقح مع المعاصرة، وبهذا تتحقق الحداثة كوسيلة لا كمطلب يقصده الشاعر قصدا، ومبتغى يريد نيله نيلا، بأي ثمن، يقول فوزي كريم: «اعترف بأنني لم أفكر يوما بالحداثة معيارا لصلاحية القصيدة وجودتها ولا حتى بالجدة» (ثياب الإمبراطور).
وعدم إقرار فوزي كريم بالمؤسسة الرسمية ودورها في تأييد حداثة شاعر هنا وتفنيد شعرية أخرى هناك، يدلل بوضوح على احتكامه إلى تجربته الذاتية في الشعر، التي أمدته بشروط التحديث التي اختزلها في ما أطلق عليه (الخبرة الروحية في الشعر) التي بها يصدق الشاعر مع نفسه ومحيطه، فلا يغالط ذاته، متبنيا حداثة هي في حقيقتها انبهار وانجرار، ومساوقا أو مسامقا الآخرين بحداثة جوفاء ليست إلا خيلاء.
الحداثة عند فوزي كريم لعب يجمع الإغواء بالإغراء من دون إغراق ولا افتعال. وهذا الفهم هو الذي يكسب التجارب الشعرية خبرة روحية مثقلة بالأسى والارتياب والشك والانكسار بعيدا عن سطوة الطيش وتضخم الأنا، واجدا أن عظمة أبي نواس والسياب تكمن في عظم محاولتهما لردم الهوة بين الخبرة والفن.
ومن هذا المنطلق شخّص فوزي كريم تجربة نزار قباني الشعرية فوجدها تهيم بالأغراض والمفاهيم، بينما تهيم تجربة فاضل العزاوي الشعرية بالأشكال، مأسورة بفكرة السلطة، التي هي السبب في تقليدية الشعر العربي وثبوتيته. وهكذا كانت قصائد نزار قباني السياسية رائجة في أوساط الحكام والسلاطين، لأن السلطة تصطفيها وتجد فيها تسلية ورواجا إعلاميين، كما أن قصائد مظفر النواب الهجائية كانت هي الأخرى «مثار متعة لدى الحكام يتلاقفونها كما يتلاقفها البؤساء الذين يقرؤونها بجدية المعذب» (الكتاب) ليس هذا حسب؛ بل إن حركة رواد الحداثة تزلفت وداهنت الذوق العام الذي أرادت السلطة المحافظة عليه بالضرورة.
وندِّية فوزي كريم للحداثة متأتية من انغماس يريده للشعر مع «الموروث الثقافي العربي الذي فصلتنا عنه هوة مظلمة امتدت قرونا» (الكتاب) وأن الشعور بهذه الهوة ليس جديدا، فقد عرفه الشعر في عصور ماضية فمال إلى الصنعة، ولم يكن يرى الأشياء كوحدة في كليتها؛ بل يراها تتحدد في الوصف. ولما جاء أبو تمام كان متحمسا للاستعارة الجديدة، بينما كان أبو نواس متحمسا للتجربة الروحية الجديدة. أما في عصرنا الحاضر فإن في حركة رواد الشعر الحديث ومن تلاهم، فرصا أتيحت لردم الهوة التي أثقلت الشعر العربي، محذرا من أن هذه الهوة قد تتعمق في كيان الشاعر فتعرِّض خبرته الروحية للتهتك وتعزز قطيعة الشاعر الأدبية مع شعره.
ولا نجانب جادة الصواب إذا قلنا إن الحداثة مطلب إنساني نسعى إليه في مختلف جوانب حياتنا؛ لكنها في الشعر غيرها في الفلسفة، كون الشعر يتعامل مع المجردات من منظور حسي يستثمر التخييل، بينما تتعامل الفلسفة مع المحسوسات من منظور تجريدي يستثمر إمكانيات التفكير المنطقي. وما بين التخييل والتفكير تختبر الذات قدراتها في الابتكار والإبداع.
ويبدو أن الذي يعوز الشاعر العربي هو التفكير وليس التخييل والدليل، على ذلك قصيدة النثر التي يعدها فوزي كريم من أوهام الحداثة. والسبب أن المثقف العربي بعد الخمسينيات كان يعيش حالة انفصام مفزعة فهو كما يرى كريم يناضل ضد المؤسسة، لكن هدفه أن يكون الابن المدلل لها. ولأن هذا المثقف انعزالي فإن هويته تنعكس فيه وليس في المجتمع، ولذلك هي غير فاعلة ومن هنا تغدو الحداثة وهمًا كذاك الذي هو إمبراطور لكنه عار من الثياب.
ولا مناص أن نلمس في هذا الطرح نوعا من جلد الذات، به تغدو الحداثة موجة لا صلة لها بالأدب العربي، لأنها موضة ترفض الموروث وتأخذ بالسطوح وتحفر هوة بين الإنسان واللغة برطانة تجعل الثقافة العربية راكدة لا حول لها ولا قوة.
وفوزي كريم الذي عاصر بحكم مهجره ما كان يشيع في الأوساط الغربية من احتدامات حول فوضى الحداثة وما بعد الحداثة، وعايش ما كان يعتري النقد الغربي من أوهام حول الحداثة، كان كثير الانتقاد للحداثة الدريدية والدولوزية في استغلاقها وعجمتها. ليكون واحدا من مناهضي الحداثة، متأثرا كثيرا بما طرحه الان سوكال ومؤيدوه وما كانت تنشره مجلات ما بعد الحداثة والبنيوية الاجتماعية ومجلة «لونكا فرانكا» وصحف «نيويورك تايمز» و«أنترناشيونال» وهيرالد تربيون» و«لوموند» و«الأوبزرفر» من مقالات عن الحداثة بوصفها هي الشعوذة والخداع والخطأ والوهم والحذلقة والفراغ.
ولعل هذه المناهضة وذاك التأثر هما اللذان سحبا فوزي كريم من منطقة الشعر إلى منطقة النقد. وتعزز الأمر مع رئاسته لتحرير مجلة «اللحظة الشعرية». وهكذا انتشت شاعرية فوزي كريم وهي تمتح من رافدين أحدهما مثله السياب كأروع ثمرة لشعر الخبرة الروحية، والآخر مثله أدونيس. كما توضحت نقدية فوزي كريم في وقوفه عند مرايا البياتي الحداثية وحداثة فاضل العزاوي التي سماها فوزي كريم حداثة المستقبل، بينما لم يخصص لنازك الملائكة ولا بلند الحيدري ولا محمود البريكان ولا حسب الشيخ جعفر، ما يناسب تجاربهم الشعرية التي حفلت بالغنى وتمتعت بكثير من الخبرة الروحية.