بوابة عشتار .. كيف نقلت الى المانيا ؟!

Sunday 7th of July 2019 07:38:45 PM ,

ذاكرة عراقية ,

حامد خيري الحيدر
لاشك أن كل من شاهد بوابة عشتار البابلية وهي تزهو شامخة داخل متحف (بيركًامون) في العاصمة الألمانية برلين، سواءً لدى زيارة ذلك المتحف أو من خلال التلفاز أو حتى رؤية صورها الكثيرة المنتشرة بين صفحات الكتب والمجلات وشبكة المعلومات الالكترونية،

لابد أن يتولد لديه جُملة انطباعات، لعل أولها ضخامة البُنيان وروعة ودقة التفاصيل الهندسية والفنية المُنفذة فيها، توضح الأهمية الرمزية لتلك التحفة المعمارية التي يطغي عليها رهبة وعظمة تليق بشعبٍ كشعب الرافدين الذي شيّدها.

بالمقابل ستدور حتماً في الذهن تساؤلات عدة.... كيف شيدت؟ بماذا ترمز؟ كيف صمدت تلك الكسوة الخزفية الملونة التي تغلفها بوجه الزمن، وكيف حافظت تلك الصور الرائعة الي تزينها على شكلها ولونها وبريقها طيلة تلك السنين؟ ولكن من المؤكد أن السؤال الأهم هو كيف تمكن الألمان من سرقة ونقل هذه الكسوة بما أحتوته من تلك الكمية الهائلة من الآجر الخزفي المزجج، ومن ثم أعادة تركيبها بنفس شكلها وقياساتها الأصلية في ذلك المتحف؟
مع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين كانت أرض الرافدين على موعد مع صفحة جديدة من الأستكشافات الأثرية العظيمة، ذلك مع قدوم البدايات الأولى لطور التنقيبات الأثرية العلمية في هذه البلاد التي أبتدأتها البعثات الألمانية في كلاً من الحاضرتين الرافديتين (بابل) للفترة 1899_1914 برئاسة (روبرت كولدوي)، و(آشور) للفترة 1904_1914 برئاسة (ولتر أندرية)، مبعوثتان من الجمعية الشرقية الألمانية.
فيما يخص تنقيبات (بابل) فقد حققت نتائج أثرية غاية في الأهمية، حيث كشفت عن آثار بنائية رائعة تعود للفترة البابلية الحديثة (الكلدية) 626_539 ق.م والفترات التي لحقتها، عكست مدى العظمة التي وصلت اليها المدينة التي كانت قمة وخاتمة الحضارة الرافدية القديمة، خصوصاً في زمن الملك (نبوخذنصر) 604_562 ق.م، الذي كان واحداً من أعظم الملوك في مجال الأعمار والبناء، بعد أن قام بحملة كبيرة لتوسيع المدينة وبناء العديد من مرافقها العظيمة، كذلك أعادة أعمار الأجزاء المُخربة منها نتيجة الحروب السابقة مع (آشور)، وهذا ما يُستدل عليه من الطابوق المختوم باسمه والمُنتشر في القسم الأكبر من أبنية المدينة.
من بين أهم المعالم المعمارية التي تم الكشف عنها خلال تلك التنقيبات هي أحدى بوابات المدينة عُرفت باسم (بوابة عشتار)، كانت قد جمعت بين روعة البناء وجمالية التصميم.. ايضاً ما أعطاها جماليتها ورونقها الأخاذ تلك الصور الرائعة التي زينتها، المعمولة بالآجر الخزفي الملون بالأزرق أضافة الى بعض الألوان الأخرى كالأصفر والأبيض والأخضر والبني والأسود. كذلك جانبي الشارع الذي يتقدمها ويمر من خلالها ليجعل منهما معاً تحفة بهية للنظر. بطريقة تعتبر قمة في المهارة الحرفية والجودة في الصنع، تعد تتويجاً للخبرة الطويلة لأبناء الرافدين في هذا النوع من الفنون التي كانت قد أبتدأت منذ فترة عصر الوركاء 3500ق.م، لتجعل هذه الصور الرائعة تصمد بوجه عوامل الزمن والتقلبات المناخية لتصل الينا بنفس حلتها الرائعة الأولى التي ميّزها أيضاً الأسلوب الفني الراقي والذوق الرفيع الذي يجمع بين تناسق الألوان ودقة ورمزية الأشكال المنفذة ومغزاها.
بعد الأطلاع على الحجم الهائل للبوابتين (الأمامية والخلفية) مع كسوتيهما من الآجر الخزفي المزجج، يصبح من العسير التصور كيف تمت سرقة ونقل كل هذه الكمية الهائلة من الكسوة الخزفية بتلك السرية التامة الى العاصمة الألمانية، ثم أعادة تركيبها هناك... لقد كانت تلك العملية بحق لا تقل ضخامة ودقة وجهد وتخطيط عن عملية تشييد البوابة نفسها...... أن الشيء الذي لابد من توضيحه أن مدينة (بابل) بالرغم من فخامة وعظمة الأبنية التي تم الكشف عنها هناك، ألا أنها من وجهة النظر الآثارية كانت فقيرة نسبياً باللقى الأثرية بشكل لا يتناسب وحجم وأهمية تلك المدينة العظيمة. وهذا طبعاً ليس بمُستغرب لمدينة تعرضت للأحتلال عدة مرات، تم على أثر ذلك وعلى مر سنين طويلة نهب ونقل معظم ممتلكاتها، تزامن ذلك مع حالات الهجر المنظم لسكانها بعد أن فقدت المدينة أهميتها وبريقها الحضاري، حيث تم خلالها نقل البقية الباقية من تلك الممتلكات (الآثار) الى أماكن استيطانهم الجديدة.... لذلك كانت البعثة الألمانية برئاسة (كولدوي) وبعد بضع سنوات من العمل المضني في هذه المدينة قد أدركت هذه الحقيقة، فبدأت تشعر بالحرج أمام الجهة الممولة وهي كما أسلف (الجمعية الشرقية الألمانية)، لعدم تزويد هذه المؤسسة بكميات من الآثار المكتشفة تتناسب وكمية الأموال الطائلة التي صرفتها لأجراء تلك التنقيبات..... من المهم ذكره أيضاً بهذا الخصوص، أن المؤسسات العلمية الداعمة والممولة للبعثات التنقيبية لم يكن لديها أستعداد خلال تلك الحقبة الزمنية بالرغم من دعواتها لأجراء تنقيبات علمية صحيحة، لتحّمل تلك التكاليف المادية الكبيرة دون أن تحصل بالمقابل أضافة الى المعلومات العلمية التي يتم الأفادة مادياً من عملية نشرها، على كمية من الآثار المنقولة ذات القيمتين المادية والعلمية لتمليء بها وتزيّن قاعات المتاحف التي تكون عادة الواجهة الدعائية لتلك المؤسسات.... لذلك تقرر سرقة كسوة تلك البوابة ونقلها الى المانيا للتعويض عن قلة الآثار المرسلة الى هناك... لقد تمت هذه الجريمة البشعة في عام 1910 بعد اكمال التنقيب في البوابة8، باقتراح من عالم الآثار (ولتر أندرية)، الذي كان بالرغم من عمله في مدينة (آشور) كان يتردد أيضاً على مدينة (بابل) ويتابع العمل فيها هناك.. ليتبنى بنفسه هذا المشروع برمته، من تفكيك الكسوة الخزفية وتسجيلها وتوثيقها، ثم عملية نقلها الى بلده واعادة تركيبها هناك بنفس شكلها السابق..... كان (أرنست ولتر أندرية) 1875_1956 أضافة الى كونه عالم آثار ممتاز، فأنه أيضاً كان مهندساً معمارياً من الطراز الأول وعلى مستوى عالي جداً من الدهاء والخبث، والأهم أنه كان قريباً جداً من المخابرات الألمانية مما جعله يتمتع بنوع من السطوة على جميع البعثات العلمية الألمانية العاملة في العراق آنذاك وبكافة المجالات. كان ذا شخصية قوية جداً، غامضة وغير مُحبة للظهور، ويفضل دائماً العمل في الظل، وقد تمكن خلال فترة قياسية من تشكيل شبكة علاقات واسعة مع شيوخ العشائر العراقية والمتنفذين في المجتمع العراقي، ساعده في هذا أجادته التامة للغة العربية، ويتبين كل ذلك في الكيفية والأسلوب الذي أدار بها عملية السرقة، ثم عملية النقل والتهريب. حيث بدأ بمقدرته المعمارية العالية برفع قطع الكسوة الخزفية بعد ترقيمها وفق مخططات هندسية وفنية خاصة... وقد تطلب ذلك وقتاً وجهداً وتنظيماً غير عادي، أستمر لأكثر من عامين، تم خلالها رفع الكسوة بكاملها من البوابتين أضافة الى الأزارة على جانبي (شارع الموكب)... وقد تم كل ذلك دون لفت انتباه السلطات العثمانية، بسبب انشغالها بواقعها المُنهار خلال تلك الفترة، لاسيما أن الحرب العالمية كانت على الأبواب... وقد أستغلها الألمان (أفضل) استغلال... لقد كانت القطع الخزفية التي يتم رفعها يتم تخزينها مباشرة مع القش لحمايتها في براميل مخصصة لحفظ الفحم الحجري المستخدم في تسيير السفن والقطارات للتمويه.. كما كان يتم نقل تلك البراميل تدريجياً الى منطقة اليوسفية لتأمينها لدى أحد شيوخ عشائرها الذي كان أحد أصدقاء (أندرية) المقربين، الذي للأسف لم يتم تحديد شخصيته التي ظلت مجهولة حتى اليوم.. كما لم تعرف الحقيقة فيما لو كان ذلك الشيخ على علم بمحتوى تلك البراميل ومتواطئاً مع الألمان، أم أنه كان مخدوعاً بطيب نية بأحتواء تلك البراميل على الفحم الحجري.... ثم على مدار عامين آخرين 1912_1914 كان يتم نقل تلك البراميل بواسطة الأكلاك عبر نهر الفرات الى شط العرب حيث تتلقفها السفن الألمانية.... هكذا وبهذه الطريقة الخبيثة تم سرقة ونقل كامل الكسوة الخزفية التي تغلف البوابتين الى متحف (بيركًامون) عام 1914 مع الابقاء والمحافظة على سرية وجودها هناك. ثم بعد نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918، تم أعادة تركيب كسوة البوابة الأمامية (الصغرى) بأشراف كامل من (ولتر أندرية) واستناداً الى الترقيم والمخططات التي قام بوضعها... ليتم الاعلان عن وجودها في ذلك المتحف رسمياً أمام وسائل الأعلام العالمية آنذاك.

مستل من بحث نشر في موقع ( الحوار المتمدن )