في 7 آب 1910..عندما دعا الزهاوي الى تحرير المرأة في جريدة مصرية

Sunday 4th of August 2019 07:06:29 PM ,

ذاكرة عراقية ,

د. فريال صالح عمر
عند الحديث عن إسهامات النخبة العراقية في الدعوة لتحسين أوضاع المرأة في المجتمع، ينبغي الإشارة إلى موقف الشاعر والمفكر جميل صدقي الزهاوي الذي انفرد بموقف جرئ جداً في هذا المضمار عندما نشر عام 1907 قصيدة انتقد فيها الحجاب الذي رأى فيه أحد عوامل تأخر المسلمين وتبعاً لما ذكره الزهاوي فإنه قد حذا في ذلك "حذو قاسم أمين(في مصر".

وكان قاسم أمين قد نشر في العام 1899 كتاباً صغيراً حول تحرير المرأة، وقد انطلق فيه من المسألة المألوفة: "إنحطاط الإسلام"، لكن ماهي أسباب الإنحطاط أو الفساد؟ وجواباً على هذا السؤال لايقبل قاسم أمين بأي من الأجوبة المألوفة، فهو يرى أن الفساد لم ينجم عن البيئة الطبيعية، إذ قامت في بعض العهود مدنيات مزدهرة في هذه البلدان نفسها، كما انه لم ينجم عن الإسلام، إذ أن تدهور الإسلام هو نفسه نتيجة لا سبب لتدهور القوة الاجتماعية. ان السبب الحقيقي للفساد إنما هو، في نظره، زوال الفضائل الاجتماعية، أي زوال "القوة المعنوية"، وما سبب ذلك إلا الجهل، جهل العلوم الحقيقية التي منها وحدها يمكن استنباط قوانين السعادة البشرية، ويعتقد قاسم أمين أن هذا الجهل يبدأ في العائلة، فالعلاقة بين الرجل والمرأة، وبين الأم والولد، إنما هي أساس المجتمع، والفضائل القائمة في العائلة هي ذاتها الفضائل التي تستمر في المجتمع، ولذلك يؤكد قاسم أمين على تحرير المرأة، ويرى أن "دور المرأة في المجتمع هو إصلاح أخلاق الأمة"، وفي البلدان الإسلامية لم يُربّ الرجال ولا النساء التربية اللازمة لإنشاء حياة عائلية حقيقية، والمرأة لاتتمتع بالحرية والمكانة اللازمين للقيام بدورها. وكان قاسم أمين قد تعرض للتأثيرات الفرنسية، خاصة فلسفة كونت اليقينية، وعلى غرار الفلاسفة الوضعيين في القرن التاسع عشر. كان أمين مقتنعاً بأن مفتاح الخلاص للمجتمع الإسلامي كامن في التغلب على الجهل ونشر المعرفة والتنوير.
ورغم تأثر الزهاوي بأفكار قاسم أمين، إلا أن الزهاوي كان مثالاً للتحرر الفكري وكانت أفكاره جريئة وجديدة، وقد عدّه البعض من دعاة الإصلاح الذين

ويمكن القول أن مفكرنا العراقي الزهاوي كان سبباً في إثارة المعركة عندما طلعت جريدة "المؤيد" في اليوم السابع من أغسطس (آب) عام 1910 وبها مقالة للزهاوي تحت عنوان "المرأة والدفاع عنها- صوت إصلاحي من العراق"، تناول فيها قضية المرأة تناولاً منطقياً، فيرى أن سيادة الرجل ليس لها مايبررها، فإن كانت القوة البدنية فإن هناك من الحيوان من هو أشد منه ناباً وأوجع رفساً، وإن كانت القوة العقلية فإن الرجال أنفسهم يختلفون في المستوى العقلي ولم يهضم أحد منهم حق الآخر.
ثم يعدد الجوانب التي هضم فيها الرجل حق المرأة، ولقد استعرض مجموعة من الحقوق المهضومة (حسب رأيه) بجرأة لم يسبقه إليها أحد من قبل، فكان الزهاوي حراً تماماً في طرح مثل هذه الأفكار التي لم يجرؤ أحد على الخوض فيها بكل حرية وصراحة، وهكذا يرى أحد الباحثين ان الزهاوي قد انزلق إلى الهوة وأسرف على نفسه وعلى قرائه، ففي بداية هذه المعركة كان يتتبع خطى قاسم أمين في موضوع الطلاق، إلا أن قاسماً كان أكثر فهماً وأشد عمقاً في تحليله للموضوع، وإذا كان الزهاوي قد أدخل الدين سبباً فقد أخرجه قاسم أمين حين قرأ عن شهيدات النساء المسلمات، بل حين رجع إلى أصول الإسلام الأولى ورأى مكانة المرأة السامية كما رسمها الدين، وكان قاسم أمين يتبع في جميع المواضيع التي عالجها طريقة الشيخ محمد عبده، فيحدد العرف الإسلامي بحذر، عوضاً عن التخلي عنه، ولقد لقبه الجيل اللاحق بنصير المرأة، لكنه يكاد لايستحق هذا اللقب، فهو لم يقترح مثلاً أن تمنح المرأة حقوقاً سياسية، إلا أنه، مع إقراره بأن ما من سبب مبدئي يحول دون ذلك، فهو يرى أن المرأة المصرية بحاجة إلى وقت طويل من التثقيف الفكري قبل أن تصبح جديرة بالإشتراك في الحياة العامة.
وهو مثل الشيخ محمد عبده يخاطب الذين لايزالون يؤمنون بالإسلام، فيستند في كل موقف يتخذه إلى القرآن والشريعة بعد تفسيرهما التفسير الصحيح، أو مايعده التفسير الصحيح.
لكن الزهاوي مس الدين، فقد إنتقل من الحديث عن التقاليد إلى الحديث عن التشريع. صحيح أن الزهاوي تأثر بقاسم أمين حين عرض لمسألة الحجاب، لكن أمين كان متميزاً بأسلوبه المنطقي الذي يخاطب العقل والوجدان في وقت واحد، بل إنه راح يعتمد على الإحصائيات حين عرض لموضوع الطلاق ورسم الخط البياني المرتفع الذي سجلته الإحصائيات ليثبت بما لايدع مجالاً للشك أن الأسرة منهارة فاشلة في ظل الحجاب وعدم الثقة.
لقد تأثر الزهاوي بقراءته "لتحرير المرأة"، لكنه تجاوز آراء قاسم أمين، وإشتط في مطالبه، وخانه التوفيق في العرض ولاشك أنه كان ينظر في بعض زوايا المقالة إلى موقفه من أسرته والى موقف أسرته منه، كان ينظر إلى والدته وقد حُرمت من الحياة الأسرية، وكان ينظر إلى أخوته من أبيه فلا يحس بعاطفة الأخوة، وكان ينظر إلى شريكة حياته التي حاولت أسرته أن تزوجه من غيرها حتى يظفر بنعمة الأولاد
فأبى، فهو من هذه الناحية لم يناقض فيما كتب وفيما طبق في الحياة، وإذا كان البعض يأخذ عليه انه دعا للسفور ولم يسمح لزوجته بأن تخلع الحجاب، فقد فعل ذلك قاسم أمين من قبل، لأنه رأى ان للطفرة أسوأ العواقب، وان الدعوات الإصلاحية تأخذ طريقها تدريجياً إلى قلب المجتمع .
ومثلما تعرض قاسم أمين من قبل لضروب من المضايقات، تعرض الزهاوي، ولكن شتان بين الموقفين، فلم تكد تصدر المقالة في مصر حتى تتناقلها الأفواه في العراق المتمسك أشد التمسك بالتقاليد الموروثة وبوضع المرأة في ظل مجتمع محافظ، فالزهاوي لم يثر رجال الدين وحدهم، وإنما ثار العامة أيضاً، وعندما خشي عاقبة هذه الثورة كتب إلى ناظم باشا والي بغداد يومئذ يرجو من الحكومة الدستورية ان لاتقتص من الصابغين أكفهم بدمه إذا كان مايريده المحرضون، بل أن تعنى بتعليمهم وإنقاذهم من الجهل لئلا تمتد أيديهم في المستقبل إلى مفكر آخر مثله يتمنى في كتاباته إصلاحاً للأمة اجتماعياً.
وهكذا استخدم الزهاوي قضية تحرير المرأة لخدمة الإصلاح الاجتماعي، فجوهر القضية الاجتماعية هو مركز المرأة ومكانتها ووضعها في المجتمع. وهكذا أصبحت أيضاً مقاييس الحكم على الأشياء مبادئ القرن التاسع عشر الكبرى: الحرية والتقدم والمدنية، فالحرية حسب رأي قاسم أمين تعني استقلال الإنسان في التفكير وفي الإرادة وفي الفعل، شرط بقائه ضمن حدود القوانين واحترامه للمبادئ الخلقية، وعدم خضوعه، خارج هذه الحدود، لإرادة سواه، فهي أساس التقدم البشري، لكن حرية المرأة، هي بدورها، أساس جميع الحريات الأخرى ومعيار لها، فعندما تكون المرأة حرة يكون المواطن حراً.
وقد ربط قاسم أمين مابين حرية المرأة والحريات الأخرى، فهو يرى بأن الحجج المستعملة ضد حرية المرأة ماهي سوى الحجج المستعملة ضد الحرية من أي نوع كانت، كحرية الصحافة مثلاً، كما انه قد ربط مابين وضع المرأة وحالة المجتمع الشرقي بشكل عام حيث المرأة في رق الرجل، والرجل في رق الحاكم، فهو ظالم في بيته، مظلوم إذا خرج منه، أما وضع المجتمعات الغربية فهي ذات حكومات مؤسسة على الحرية واحترام الحقوق الشخصية، ولذلك ارتفع شأن النساء فيها إلى درجة عالية من الاعتبار وحرية الفكر والعمل.
ومما زاد من أهمية ماطرحه الزهاوي من أفكار هو إمتداد أثرها من العراق إلى مصر بما أحدثته من ردود أفعال متنوعة، فشارك بعض أدباء مصر في المعركة التي بدأت أصلاً في بغداد، وشرعوا سيوفهم يتنازعون الموقف بين مؤيد ومعارض، نثراً وشعراً. وقد تردد صدى الأفكار المعارضة للزهاوي في كتاب "المرأة في الإسلام" لمحمد حمدي النشار الشاعر، وقد أسمى مقالة الزهاوي "العراقية" بعد أن حاول شاعرنا الزهاوي التنصل منها، وسمى صاحبها "الاستاذ العراقي"، وتتبع النشار مقالة الزهاوي فقرة فقرة، فرد عليها رداً قوياً مفحماً، مبنياً على أصول الشرع وأصول المنطق في المناظرة.
وقد تم إغناء العديد من هذه الأفكار المعارضة والمؤيدة، فيما بعد، في كتابات بعض المثقفين والأدباء المصريين، لصالح اتجاهاتهم الفكرية الرامية إلى تحقيق النضج القومي والاستقلال الحقيقي.

عن رسالة (تاثير الفكر الفرنسي على النخبة العراقية)