كربلاء في عهد الوالي داود باشا

Sunday 18th of August 2019 07:30:31 PM ,

ذاكرة عراقية ,

د . عماد عبد السلام رؤوف
لعهد ولاة المماليك في العراق (1162-1247هـ/1749-1831م) أهمية خاصة في تاريخ العراق إبّان القرون الأخيرة، وذلك لما اتسم به هذا العهد من تغيرات مختلفة، شملت معظم مناحيه، وعلاقات سياسية واجتماعية معقدة نشأت بين مختلف القوى فيه، وبخاصة ما اضطلعت به بغداد من دور متميز في إدارة شؤون المدن العراقية الأخرى، بعد أن كان هذا الدور غير واضح، أو فاتراً، في العهد السابق من الحكم العثماني.

وقد أدت بغداد نفوذاً متفاوتاً على جميع الأسر الحاكمة آنذاك، مثل الجليليين في الموصل، والبابانيين في قلا جولان ثم في السليمانية، والبهدينانيين في العمادية، وآل عبدالجليل في الحلة، وآل الملالي في النجف، والنقباء والسدنة في كربلاء، وغيرهم. ولكن هذا النفوذ أخذ بالتعاظم السريع كلما اقترب عهد المماليك من نهايته، لا سيما في عهد آخر ولاتهم داود باشا (1232-1247هـ/1816-1831م)، فتم إزاحة جميع تلك الأسر الحاكمة بعد صراعات ونزاعات عديدة، وبذل كل مسعى لاستبدال تلك السلطات المحلية بسلطة بغداد المركزية.
ومن المدن التي سعى داود باشا لفرض سيطرته المباشرة عليها، مدينة كربلاء، التي كانت تتمتع تلك الحقبة، بحكومة محلية، ثلاثية المظهر، يترأسها نقيب الأشراف، وسادن الحضرة الحسينية، وحاكم يعينه والي بغداد، وكانت الحياة السياسية في المدينة تتشكل وفق توازن هذه القوى حيث يتنقل مركز الثقل السياسي بين النقيب والسادن، بينما يمنح ممثل الوالي العثماني، شكل الحكم العثماني للمدينة فحسب.
ولما كانت خطة داود باشا تتلخص بالإخلال بهذا التوازن عن طريق نقل السلطة الحقيقية في المدينة إلى ممثله فيها، فقد عيَّن حاكماً جديداً هو (فتح الله خان) وزوده بحامية البانية (ارناؤوطية) قدر عدد افرادها بنحو (500) جندي. وكان طبيعياً ان تشكل هذه القوة الجديدة خطراً كبيراً على الزعامة التقليدية في المدينة، وساعدت الأعمال غير المسؤولة للحامية الالبانية على تأليب الرأي العام ضد الحاكم الجديد، مما أدى إلى اغتيال الأخير في أوائل محرم سنة 1237هـ/تشرين الأول 1821م.
وطالب نقيب الأشراف بإحداث تغيير إداري يكفل للزعامة المحلية نفوذها السابق أو بعضه في الأقل، وذلك بتعيين سادن الحضرة الحسينية السيد محمد علي آل طعمة معاوناً لحاكم البلدة الذي سيتولى منصبه مستقبلاً.
وما ان وافق داود باشا على هذا الطلب، حتى قدم النقيب طلباً آخر لإسناد سدانة الحضرة الحسينية (وكانت قد شغرت بعد نقل سادنها إلى منصبه الجديد) إلى زوج ابنته السيد محمد علي بن محمد موسى شرف الدين الشهير بأبي ردن، وأيد كل من السيد محمد حسين أغا بُزرك الشهرستاني، ونقيب أشراف بغداد السيد علي بن محمود القادري الكيلاني هذا الطلب، فاستجاب داود باشا إليه، مشترطاً على السادن الجديد والنقيب التعاون مع الحاكم الذي عينه حديثاً، ويدعى علي أفندي، على تسليم قتلة الحاكم السابق فتح الله خان، إلاّ أن بوادر النزاع بين السادن والنقيب من جهة، والحاكم من جهة أخرى، لم تنته بعد، إذ سرعان ما اغتيل علي أفندي نفسه، مما جعل داود باشا يصمم على فتح المدينة واخضاعها بالقوة .
ويبدو أن الزعامة المحلية، ممثلة بالنقيب والسادن، شعرت بخطورة نوايا داود باشا، ففضلت تجنب الصدام المسلح بالطرق الدبلوماسية وباتباع سُبل تهدئة الخواطر، وكتب نقيب الأشراف رسالة، أرفقها بهدايا، إلى سليمان أغا أحد مقربي داود باشا يهنؤه فيها بمنصب (كتخدا البوابين) الذي ناله. وإذ كان قد مضى على هذا التعيين خمسة أشهر، فمن الواضح أن رسالته وهداياه كانت تهدف إلى إزالة ما يكون قد وقع في النفوس من تكدر بسبب اغتيال علي أفندي من ناحية، وجس نبض داود باشا نفسه من ناحية أخرى.
وعلى الرغم من أهمية هذه الرسالة بالنسبة إلى ما جرى بعدها من أحداث، إلا أن أحد المؤرخين لم ينقل لنا شيئاً من محتوياتها، ولكننا وقفنا، في أثناء اطلاعنا على بعض المجاميع الخطية، على نص الرسالة التي أجاب بها سليمان أغا كتخدا بوابي داود باشا على رسالة نقيب الأشراف المذكورة، ومنها يفهم فحوى هذه الرسالة ومرماها.
ويلاحظ أن رسالة سليمان آغا جاءت مبهمة في مطاليبها، لا تخرج عن التأكيد على نقيب الأشراف بإخراج مُسببي الفتن من (أرباب الزيغ والعناد) من البلدة، ونحن نعلم المقصود بهؤلاء هم قتلة علي أفندي، وربما فتح الله أيضاً، من حكام المدينة السابقين. وعلى أية حال فإن رسالة سليمان أغا، بعدم إشارتهما إلى أسماء أشخاص معينيم، أو مطالبتهما بتحديد نوع العقاب المطلوب، قد تركت مجال العمل مفتوحاً للنقيب وأولي الأمر ليتدبروا أمرهم في هذه المسألة.
وتحتوي الرسالة أيضاً جملة من عبارات التهديد والوعيد، في حالة عدم تنفيذ الطلب المذكور، مما يؤكد أنها لا تمثل رأي سليمان أغا باعثها، وانما رأي داود باشا نفسه.
ويفهم من الرسالة أن وفداً كربلائياً قدم إلى داود باشا في فترة سابقة، وأن عفواً صدر من الأخير عن أحداث جرت قبلها، ولكنها لا تشير إلى تاريخ صدور هذا العفو، وماهية الأحداث التي أدت اليه، بيد أننا نرجح أن صدوره كان بعد حادثة اغتيال (فتح الله خان) مباشرة، فلقد سبق أن ذكرنا أن داود استجاب لمطلبيَن رفعهما نقيب كربلاء، بعد تلك الحادثة، هما تعيين أحد أعوانه معاوناً للحاكم، وتعيين زوج ابنته سادناً للحضرة الحسينية، فلا يعقل أن تكون استجابته قبل إصدار عفو شامل عما سبق من أحداث مهمة. وعلى هذا يكون وصول الوفد وصدور العفو في أحد الأيام من الفترة الممتدة من أول سنة 1237هـ/1821م وهو تاريخ مقتل فتح الله خان، إلى أوائل سنة 1238هـ/1822م وهو تاريخ مقتل علي أفندي فبعد الحادث الأخير كانت نية داود باشا قد تبدلت على ما يفهم من رسالة سليمان أغا بوضوح.
وتاريخ الوثيقة، كما جاء في المجموعة الخطية التي تحتويها، هو 10 لـ (شوال) سنة 1239هـ/1824م، فهي إذن اول وثيقة تفصح عن نوايا داود باشا وخططه، وهي الخطط التي بدأ تنفيذها عسكرياً منذ سنة 1241هـ/1825م واستمرت حتى نهاية حكم داود باشا، وعرفت باسم (وقعة المناخور) ثم استؤنفت في عهد نجيب باشا (1258هـ-1265هـ/1842-1848م).
والوثيقة من إنشاء الشيخ عبد الفتاح الأدهمي (توفي سنة 1246هـ/1830م) ولعلها بخط يده، كتبها بأمر سليمان أغا المذكور. ثم إنه نقل صورتها في مجموعته الخطية ضمن ما نقله إليها من نماذج منشآته الأدبية.