كامل شياع: هاجس الهوية ومصباح ديوجين

Wednesday 21st of August 2019 09:03:47 PM ,

عراقيون ,

لطفية الدليمي
ليس رثاء لأخ وصديق ومثقف متفرد، فقد كتب الآخرون مرثيات اتفق فيها محبوه وعارفوه على فداحة الفقد وخسارة الثقافة العراقية المهددة من منظومات ومؤسسات ودول - برحيل هذا الرجل الرصين العامل بصمت الحكماء وصبر المتفائلين وحلم التنويريين ونزاهة الزاهدين..

كان الصديق الأشد نبلا والتزاما وحياء ومعرفة وإيغالا في الحلم، وفي حواراتنا سواء في بغداد وأوروبا لم اكن اخفي عنه انه يحمل فكرا طوباويا من زمن غير زماننا، وهو يعمل وسط حشود الأضداد الذين يشحذون الكراهية والجشع ويوائمون بين مخلب الوحش وقناع التوافق وبين ظلمة الفكرة وشهوة التسلط. كان يقول لي (ذلك شأن طبيعي في مثل فوضى بلاد محتلة وممزقة تعيد بناء نفسها. ولكنك حسنا فعلت بخروجك من البلاد أما عودتي أنا فهي خيار وجودي ومعرفي، اعلم ان الوطن لم يمنحك سوى عذابات مترادفة وفرص موت وشيكة، ولكني اخترت ان أمشي بين الرصاصة والأخرى، لعلي أخفف من جراح الوطن)..
ها هو واحد من ضحايا الحلم الثقافي والإنساني يسلمنا لوحشة رحيله الصاعق وخسارتنا الفادحة الأنه اختار الزمان الخطأ لتحقيق الحلم..؟؟ أم لأن الأرض ما عادت تتسع لنزاهة الحالمين؟؟
كامل شياع الذي ما راهن على مكاسب مادية او سلطوية كان يمثل لنا نحن أصدقاءه حامل مصباح ديوجين الذي نبحث بواسطته عبر مرايا النهار عن رجال يشبهونه او يقاربونه في الخصائص والزهد والنزاهة، ونحن ندرك حجم العتمات في نهارات الطائفية والقبلية والانتماءات الفرعية المتناحرة ونعرف ندرة الرجال المتجردين من الأحكام المسبقة والأهواء، بينما تحتشد الساحة بالأشخاص الذين يمارسون خطابا سياسيا مراوغا يجتر عذابات الضحية ويعيد تسويقها للحاضر والغد مخدرا بها الجموع اليائسة التي يكرس ذلك الخطاب جهلها واستلابها وبؤسها المؤبد..
مشكلة كامل شياع وربما مأثرته، أنه مزج بين المثقف المحايد العقلاني الناقد وأمانته العلمية وموضوعيته النادرة، وبين المثقف العضوي - المستشار العامل مع ادارة الحكم من جهة وهو الأكثر التصاقا برهانات الحلم الاجتماعي والإنساني من جهة اخرى. فكان يرسم الرؤية الإستراتيجية للمؤسسة التي لا تتقبل خيارات الديمقراطية الثقافية بل تعترض على الأنشطة التي قادها هذا الرجل و بينها المؤتمر الأول للمثقفين العراقيين الذي رقدت مقررات لجانه ومقترحات ورشه في ادراج مكتب المستشار كامل شياع بسبب حظر وزراء المحاصصة نشرها في كتاب..
كان يخطط برؤية مستقبلية متفتحة على آفاق معرفية وتجارب فكرية جديدة، وكانوا يعملون بنزعات طائفية محكومة بالمحاصصة والنظرة الماضوية التي لا ترى ابعد من مصلحة الكتلة او الطائفة ومظالمها التاريخية، وتعمل وبإصرار قاطع ضد جميع التوجهات المستقبلية للرجل وتعيق وتحبط اي مقترح عقلاني لمعالجة الواقع الثقافي وتطويره وعصرنته..
من جانب اخر كان كامل شياع مهموما بفكرة الهوية المحلية والهوية الثقافية، فلطالما حدثني عن جهده الشخصي لتعريف ابنه الوحيد (الياس) الذي ولد وعاش في بلجيكا - على منابع وجذور الثقافة العربية وتنويعاتها وتجلياتها في الأدب والفن والعمارة وكان يصحبه في رحلات الى سورية واليمن ليطلعه ميدانيا على العناصر والثيمات التي تشكل جسم الثقافة وخصائصها وتلاوينها، ليعرف ان والده العراقي ينتمي الى جماع هذا النتاج الفني والجمالي والفكري ولتنفتح بينهما مسارات للحوار والتواصل والمعرفة غير المشروطة بزمن ومكان محددين..
كان قد قرأ لي رسائل كتبها لابنه، رسائل شجية مفعمة بالعقلانية وعاطفة الأبوة الممتزجة بالمعارف المعاصرة وروح الصداقة والتفاهم بين جيلين مختلفين، كتبها لإدراكه خطورة الفراغ المفزع الذي يتربص بالفرد عندما يفتقر الى عناصر اساسية من هوية اجتماعية وثقافية تربطه بوطن وجماعة بشرية لها عاداتها وخصائصها واحلامها واوجاعها المشتركة..
لم يذهب هذا الرجل الى التخوم كما كان يرى في مفهومه للنهاية المتضمنة في الحاضر، على رأي جان بودريار- بل اجتاز الفضاء المستحيل وحيدا وحالما ومبتسما في حقول تجاربه اليوتوبية وسط الخراب، لأنه كان يعيش النهاية كل لحظة ويقول: (حين ندرك ذلك لا يعود هناك ما يستحق الانتظار، غير ان تسليم النفس للنهاية ليس استسلاما، إنه بداية السير نحو التخوم او بينها)..