حارس البوابة التاريخ هراء وكابوس وجثة محطمة

Tuesday 1st of October 2019 07:13:41 PM ,

منارات ,

هيثم حسين *
يعود الإنكليزي تيري إيغلتون في سيرته “حارس البوابة” إلى طفولته المبكرة ليتوقف عند البيئة القاسية التي عاش فيها، وكيف أن طائفته كانت متقوقعة على ذاتها، وعانى نتيجة تلك الصرامة، كسر الأطواق المحيطة به، وحطم قيوده لينطلق في عالمه غير المحدود، ويدرس بطريقة عقلانية ذاك الواقع ويفكك تفاصيله وآلياته، ويتمتع بحس النقد والسخرية منه في بعض الأحيان.

يستعيد إيغلتون تفاصيل من طفولته ومن شبابه، ويتوقف عند محطات من حياته كأستاذ زائر في العديد من الجامعات حول العالم، وملاحظته للتغيرات بين المجتمعات. تراه يستهل مذكراته بالحديث عن دير راهبات الكرمليت بالقرب من مانشستر، وكيف أنه كان حارس البوابة، وبوصفه خادم مذبح في العاشرة من عمره في مصلى الدير، كان يتوجب عليه أن يحضر حين تضع إحدى المبتدئات، في حوالي التاسعة عشرة من عمرها، الخمار وتختفي داخل المكان إلى الأبد.
يتحدث صاحب “كيف نقرأ الأدب” عن تلك الطقوس التي كانت بداية حبس الراهبة المبتدئة، وكيف أنها أولاً كانت ترتدي ثياب عروس كرمز لزواجها من المسيح، ويقص شعرها قصيراً تحت الخمار الأبيض المخرم. ومن ثم تقودها زميلاتها من الراهبات بعيداً لكي تعود وهي تضع خماراً أسود وترتدي ثوباً من قماش خشن وبني اللون خاص بطائفة الكرمليت التي يصفها بأنها لا تفوّت أيّ فرصة لإماتة الجسد.
يتحدث عن نظرة بعض المتدينين من الطائفة إلى التاريخ على أنه هراء، واقتناع قسم الراهبات به، وتشكك أخريات بطريقة مضمرة، يقول إنهن لم يصدقن أن التاريخ مجرد هراء، لأنها وجهة نظر بروتستانتية أكثر مما ينبغي. في الحقيقة ستكون هرطقة. ويعتقد أنه إذا كان الأمل في الإنسانية معدوماً، فما الداعي إلى النهوض مرات في الليلة الواحدة للصلاة من أجلها؟
يذكر ما قاله ماركس عن التاريخ بأنه كابوس، لكنه رأى أنه يجب أن تكون هناك طريقة للحلم بحيث تسمح لك بالاستيقاظ. ويجد أن أسوأ كابوس هو الاعتقاد بأنك استيقظت وإذا بك تكتشف أنك ما زلت تحلم. ويلفت إلى أن هناك العديد من الأمثلة السياسية حول هذا، كما يلفت إلى أنه إن كان يجب إبطال التاريخ، فإن فعل ذلك ممكن فقط من الداخل.
يشير إلى أن الإنجيل المسيحي يدعو إلى التأمل في حقيقة التاريخ الإنساني المتمثلة في الجثة المحطمة لمجرم سياسي نُفّذ فيه حكم الإعدام. ويعتقد أن الرسالة التي تنادي بها هذه الجثة، على حد قول اللاهوتي هربرت ماكيب، عنيدة، إذا لم تعرف الحب فأنت ميت، وإذا أحببت فسوف تقتل. يخرج بنتيجة يأسف لها وهي أن هناك يرقد الأمل الكاذب، ثرثرة الخلاص العاطفية.
بوصفه خادم مذبح في العاشرة من عمره في مصلى الدير، كان يتوجب عليه أن يحضر حين تضع إحدى المبتدئات، في حوالي التاسعة عشرة من عمرها، الخمار وتختفي داخل المكان إلى الأبد
يتحدث عن طائفته وأولئك الراهبات اللاتي ظللن محط تأسفه، يقول إن الكرمليت عاشت وكأن التاريخ يمكن أن يختفي داخل ثقب ضيق في أيّ لحظة، وإنه كان باستطاعة الراهبات أن يمارسن خدعة ماكرة على الموت بتمثله في حياتهن، بتمثيل موتهن وبهذا يخدعنه بإرهاب. ويقول إنهن لمّا كنّ في العالم وليس منه، أصبح وجودهن نوعاً من المحاكاة الساخرة، ولكن في أثناء محاولتهنّ اكتساب أحد أشكال المحاكاة الساخرة كن في حاجة إلى تجنب شكل آخر.
ويلفت إلى أنهن لم يكنّ مضطرات إلى أن يكافحن لجعل الحياة أفضل بالعمل السياسي أو بالقيام بالأعمال الخيرية. بما أن هذا سيربطهن بالعالم نفسه الذي يبترّأن منه. وبدلاً من ذلك كان دورهن أن يكن شاهدات على زوال ذلك العالم، وأن يتصورن مسبقاً في حياتهن موت التاريخ، وذلك بإعلانهن بأسلوب مسرحي يأسر العين قلة أهميته.
يشير إلى أن مهمتهن كانت ببساطة الإشفاق على بلوى الإنسانية والتماس الرحمة على الدوام لصاحبها. وأنه لم يكن يسمح لأيّ نفحة من الأمل الاجتماعي المسكنة، ولا لأيديولوجية أصحاب الفكوك العريضة على التقدم، بالتمويه على حقيقة مدى فظاعة الأمور معهم، وكم سيستغرق منهم إصلاحها.
ينتقد إيغلتون بعض الممارسات الطائفية لدى الطائفة الكاثوليكية التي كان ينتمي إليها، يقول إنهم، معشر الكاثوليك كانوا أقلية في إنكلترا، لكنهم لم يقدّروا جيداً الهامشيين والأقليات، على غرار ما فعلته ما بعد الحداثة لاحقاً. ويقول إنهم على العكس، كانوا يزعمون احتكار الحقيقة، والقول بأن الغالبية حادت عن الصراط المستقيم. ويتحلى بجرأة الاعتراف بأنهم كالعديد من الأقليات جمعوا بين العجرفة وجنون العظمة والرضى عن الذات الذي يشعر به المختارون والقلق الخبيث للذين لا يشعرون بالأمان، وأنهم جمعوا أيضاً بين انشقاق اللامنتمين وإرادة المحافظين للانتماء.
يقر إيغلتون أنه كبر وسط السرة والنفاق، والرفض المطلق، والغرابة الغوطية، وإيماءات التطرف، والعذارى مع عناقيد الزنجبيل، وشعائر التقشف والتضحية بالذات، والموت في الحياة، ويجزم أن ذلك كله ساعد في تشكيل ميله السياسي اليساري لاحقاً.
يقول إنه لم تكن معرفة القراءة والكتابة أقوى سماته في مجتمع طفولته، لقد كان عالماً لم يعد يفهم كيف استطاع أن يكسب قوته بمجرد تأليف الكتب، وكأنه يقول إنك ألّفت أحدها بإخراج الشمع من أذنيك. ويذكر حادثة طريفة عن جدّه لأمه الأيرلندي الذي تعثر ذات يوم مصادفة بنظارة في الشارع فوضعها على عينيه وبقي يضعها حتى آخر يوم في حياته. لكنه لم يكن في حاجة إليها، بما أن بصره كان سليماً كما أنه لم يكن يحسن القراءة. وكان يطلب منه حين كان طفلاً أن يقرأ له الصحيفة، ويعتقد أنه بالرغم من عدم فهمه للتفاصيل المتعلقة بالبورصة والأسهم كان يضمر وهماً خاصاً به بأنه سمسار بورصة.
يصف الكاتب نفسه بأنه يكتب بغزارة لأنه يستمتع بذلك، كما قد يستمتع الناس بالوصال الجنسي وبأكل كبد الدجاج، وأنه لم يتمكن أبداً من تجاوز فضيحة أنه تلقى مالاً مقابل أن يفعل ما يجده مرضياً، وذلك في إشارة إلى محيطه الاجتماعي الذي لم يتفهم بداية كيف يمكن الاستمتاع بممارسة العمل، والإفادة من الكتابة التي يستمتع بها.
يستذكر إيغلتون بداية ثمانينات القرن العشرين حين حاول الانضمام إلى حزب العمال وتم رفض طلبه لأسباب غير مقنعة، ويجد أن الثوريين ليسوا متفائلين ولا متشائمين، بل هم واقعيون. ويعتقد أن أحد أسباب كونهم شديدي الضعف على الأرض هو أن الواقعية مذهب يتسم تطبيقه بصعوبة فائقة. ويجد أن هذا بالضبط ما فشل البراغماتيون المتسكّعون في إعطائه حقه.
يتحدث عن تضحية والده الذي ظلّ عاملاً لثلاثين سنة، ومسعاه ليعيش أبناؤه حياة أفضل من حياته، يقول إن الفقر ليس أفضل مدرسة لتعلّم تذوق الأشياء التي فينا. ويرى أنه بهذا المعنى غير جميل، وليس فقط بغيضاً. يذكر أن حياتهم في المنزل كانت مقفرة كحياة حيوان العضل، بلا أصدقاء، أو رحلات، أو تسلية، أو مهارات اجتماعية. يقول إنهم كانوا في حالة عوز شديد إلى حدّ البؤس، ولكنهم كانوا أيضاً بائسين، ويلفت إلى أنهم كانوا يعيشون في الوقت نفسه حياة مزدحمة، رعديدة، منمّقة اجتماعياً بقدر يكفي لنعي حقارة وضعهم الاجتماعي، وكان هدفهم في الحياة أن يحفروا الكلمات التالية على شواهد قبورهم “لم نكن من مثيري المشاكل”.
يعتقد إيغلتون أنه وسط ذلك الواقع كانت اللغة هي الحافة التي يطلّون منها على العالم، ويستذكر أقرباء له أيرلنديين كانوا يرتجلون ثرثرات فكاهية لامعة على امتداد ساعات، ويجد أنه لا عجب أنه هو المشغوف باللغة والقراءة والكتابة أصبح بطلاً مبكراً لكل ما هو جميل، للإيماءة المبالغ فيها، للنهاية بحدّ ذاتها، بطريقة عقلية محضة.
* كاتب سوري
عن / العربي الجديد