سارتر .. حياته كلماته

Thursday 10th of October 2019 09:15:26 AM ,

منارات ,

انيس منصور

ولِد جان بول سارتر يوم 21 يونيو/حزيران سنة 1905 وما زال تأثيره حياً . . أي ما تزال هناك آراء أخرى جديدة لا نعرفها سوف نضيفها إلى ما كتب . فنحن لا نعرف ما الذي تفعله حريته . ونحن عندما نقف أمام سارتر هذا الموقف فقد اخترنا له أعز الأفكار لديه . فهو الذي يرى أن الناقد يجب ألا يكتب عن إنسان ما زال حياً . لأنه ما دام حياً فالكلمة الأخيرة لم ينطقها بعد .

ولكن بعد أنْ يطبق عينيه وأذنيه ، فمن حقنا أنْ نتناوله كأثر أدبي . كشيء . وبذلك يصبح النقد علمياً .

ومع ذلك فسارتر نفسه أصدر كتاباً ضخماً عن الأديب جان جينيه . وهذا الكتاب يعتبر من أروع الأعمال النقدية في القرن العشرين . وجان جينيه ما يزال حياً ، لم يكمل رسالته بعد . ولكن سارتر تناول من حياة جان جينيه طفولته ، وأثر هذه الطفولة على حياته وأثر جان جينيه على الطفولة لكل أبناء الطبقة المتوسطة . وسارتر إذن اختار جان جينيه الذي مات .. أي الطفل الذي كان في يوم من الأيام . وكل طفولة لأي إنسان هي مرحلة تمت . وكملت . ولا نستطيع أنْ نضيف إليها شيئاً . ولا أنْ نحذف منها شيئاً . كل ما نستطيع هو أنْ نعترف بها أو ننكرها . أو نعيش في الطفولة باعتبارها موقفاً اجتماعياً ، من حريتنا الصغيرة في هذا الموقف . فكل حرية هي حرية في موقف . تتحدد بالنسبة للموقف . ويتحدد بها الموقف أيضاً .

فحياة سارتر كطفل هي الموقف النموذجي لكل من يريد أنْ يتناول حياته . .

وحتى الذين كتبوا عن حياة سارتر لم يفرقوا بين سارتر الإنسان ، وبين سارتر الأديب أو الفيلسوف . فسارتر هو فلسفته . فسارتر هو رواياته ومسرحياته ومقالاته .

ولذلك جاءت كل الكتب التي تناولت حياة سارتر نوعاً من البحث البوليسي عن وجه الشبه بين سارتر وبين شخصياته .. مقارنة مستمرة بين شخصية "ماتيو" في رواية "سبل الحرية" بأجزائها الثلاثة .. وبين الفتى فلوريينه في قصة "طفولة رئيس" وبين الفتى فرانتس في مسرحية "سجناء انطونا" .. الخ.

ومن الممكن أنْ نجد هناك شبهاً. ولكن من الصعب أنْ نجعل الشبه تاماً بين سارتر الفيلسوف وبين البطل أنطوان روكنتان في رواية "الغثيان". وإن كان سارتر قد أجرى على لسان هذا البطل كل أفكاره الوجودية وكيف تفتحت له الدنيا معنى معنى.. وكلمة كلمة .. وكيف تحوّل البطل إلى مرصد دقيق جديد وسط غابة من المعاني المنعشة .. وكيف شعر بالدوخة وبالغثيان والقرف والملل والضياع وسط هذه الأوركسترا الصاخب من المعاني البكر.. ولكن ليس من المستحيل أنْ يكون سارتر هو هذا الفتى..

والناقد هنا يتحول إلى قارئ كف أو إلى أحد علماء الفراسة.. ولكن أين سارتر الإنسان؟ لا نجده إلا بصعوبة ..

* * *

ولذلك ليس أمامنا إلا أنْ نرجع إلى ما كتبته صديقته الأديبة سيمون دي بوفوار . فقد كتبت الكثير عن سارتر الطالب والزميل والصديق والحبيب والإنسان القلق والأستاذ.. ثم الزوج ..

وهي لا تصور في مذكراتها إلا جانباً من حياة سارتر . ولكن تفاصيل حياته ، ومشاكله اليومية الصغيرة ، لا تعرف منها إلا القليل جداً . فهل حياة سارتر خلت من الأشياء الصغيرة ؟ هل حياة سارتر كانت كلها قضايا فلسفية ؟ نعم كانت حياته فكراً وبحثاً عن أفكار جديدة . ولم يكن سارتر يفرح بالعثور على شيء جديد . وإنما كان يفرح جداً " عندما يجد اسما " لهذا الشيء الجديد .

فالتجربة الحيّة لا يهمه أنْ يشعر بمرارتها ، بقدر أنْ يستسلم لها ويمدّ يدها إلى " جيوب التجربة " ينشل اسمها السري وطريقة استعمالها . . وسيمون دي بوفوار تقول لنا : إنها كانت مشغولة بمعانقة الحياة الحارة . . أما سارتر فكان مشغولاً بالبحث عن تسمية لهذه التجربة . وعن قاعدة . لكل التجارب المماثلة . .

وليس أمامنا إلا أنْ نرجع لبعض ما كتبه تلامذته . وتلاميذه مخلصون لا يرون في سارتر إلا فيلسوفاً يتنفس فكراً . ويسرفون في تقديسه . وبذلك يظلمون الفيلسوف . فهم يضيفون إليه صفات ليست فيه . . أو صفات تجعل منه إنساناً آخر . ويمنعه الحياء أنْ يدافع عن نفسه ، مكتفياً بأن كتبه هي أوراق اعتماده . وإنه ما يزال على قيد الحياة ، وفي إمكانه أنْ يروي للناس الحقيقة .

ولم يكتب سارتر إلا جانباً ضئيلاً من حياته في كتابه " الكلمات " . وفي هذا الكتاب يحكي لنا سارتر قصة اكتشافه للكلمة واللغة والكتب وعالم الأدب . وعرض لنا في نفس الوقت البذور الأولى للفيلسوف سارتر . .

وفي كتاب الكلمات نجد أن سارتر قد صوّر لنا نوعاً من الوجود " اللغوي " . . وطفولته ليست إلا عشرات من الكتب : هي الأرض والسقف والجدران والنوافذ والهواء والسماء . . هذه الكتب هي دنياه بكل ما فيها من مُثل عليا قديمة وجديدة . ومُثل عليا يمكن تغييرها . . حتى الله قد عثر عليه سارتر . وأحس أمام الله إنه " منبوذ " . وإنه لذلك من حقه أنْ يفعل كما يشاء ، فالله قد أنكره قبل أنْ يعترف به سارتر . .

وطفولة سارتر هي المادة الفنية لرجولته ، ولفلسفته .. وفلسفة القرن العشرين كله . فالوجودية ما تزال أحد تفسيرات الحياة في العصر الحديث ، ولا يزال سارتر هو أهم معالم الحياة والفكر في فرنسا .

وفي طفولة سارتر شعور واحد واضح ، وقد ازداد عمقاً ووضوحاً بمرور التجربة . فسارتر ما يزال يشعر بالغربة في هذا العالم . فهو غريب في العالم ، وهو غريب عنه أيضاً . وفلسفة سارتر هي محاولة مستمرة لعقد صداقة مع هذا العالم . أو للتعارف .

وسارتر هو الذي يتقدم عادة . وهو الذي يسأل وهو الذي ينتظر في صمت جاد جداً أي جواب . ثم يعود يسأل وينتظر..

وهذا الشعور بالغرابة بدا عند سارتر الطفل شعوراً بأنه يتيم ..

فقد مات أبوه وهو في الثانية من عمره .. وتزوجت أمه مرة أخرى وهو في الحادية عشرة من عمره. وفي هذه الفترة عاش سارتر في بيت جدّه ، وجدّه من عائلة اشفيتسر المشهورة في منطقة الألزاس الفرنسية الألمانية . ولم يجد سارتر أباه وإنما وجد رجلاً آخر هو : جده لأمه .. ولم يجد أمه وإنما وجد مربية ألمانية.

لم يجد لُعبْ الاطفال ، وإنما وجد الكتب الكثيرة جداً وكل كتاب من هذه الكتب هو مثل صندوق الأعاجيب ، مليء بالأشخاص والمعاني والحيل والأكاذيب .. واكتشف أن الكاتب هو أكبر ساحر . فهو قادر على أنْ يخلق أشخاصاً وحوادث وبيوتاً وقصوراً وكنوزاً . وإن القارئ يستطيع أنْ ينعم بكل ما ينعم به أغنى الأغنياء . واقتنع سارتر بأنه يستطيع أنْ يكون هو شخصياً صانعاً للمعجزات . في استطاعته أنْ يكتب . وقد كتب مئات الصفحات وهو في الثامنة من عمره ، كتب قصصاً قصيرة . ونظم قصائد سيريالية . ووضع مشروعاً لمسرحيات يقوم هو بدور البطولة فيها .. وأقام لنفسه حفلة تكريم باعتباره مؤلفاً صغيراً . ثم تولى هو نقد أعماله الأدبية .. كل هذا فعله وهو دون العاشرة ..

وأصبح من المؤكد لديه أن "علي بابا" ليس هو الإنسان الوحيد الذي يستطيع بكلمة : أفتح ياسمسم أنْ يجد نفسه أمام كنوز "ألف ليلة وليلة" .. وإن كل كاتب هو علي بابا وهو كنوز ألف ليلة وليلة.. وهو مليون ليلة وليلة .. وإنه قادر على هذا كله .. وإنه سوف يكون هذا كله..

ورغم هذا الثراء الأدبي والفني في حياة الطفل سارتر فإنه كان مليئاً بالوحدة .. بالعزلة .. فقد أحس أنه وحده . وإنه بلا أب .. ولا أم . وإنه يتيم . ولم يقبل سارتر أنْ يكون موضوع شفقة من أحد . فقد كان يرفض إشفاق الآخرين عليه . حتى تصور بعض أقاربه أنه إنسان شاذ . فهو لا يفتقد الأب أو الأم . وأحس سارتر إنه ليس مطالباً باحترام أحد . وليس مطالباً بالتزام آداب السلوك ولا أصول العلاقات الاجتماعية . وليس أسهل من أنْ يسمعهم يهمسون : إن أحداً لم يعلمه ذلك .

ومعنى هذا إن أسرته قد أعفته من كثير من الآداب الاجتماعية التي يجب أنْ يلتزمها كل طفل .. كل طفل له أب وله أمّ .

ولم يشعر سارتر الطفل إنه يملك شيئاً .. أو أن شيئاً يملكه . فهو لا ينتمي إلى أحد، ولا أحد ينتمي إليه .. فهو ليس ابن فلان، وليس فلاه أباه..

واستغرقه عالم الكتب. واستغرقه العالم الجديد الذي اكتشفه . وتحول إلى "سندباد" وإلى "جيلفر" وإلى "أليس" في بلاد العجائب..

وأحس بأنه ليس من الضروري أنْ يكون للإنسان أم. فالمربية تكفي..

وليس من الضروري أنْ يكون للإنسان أب، فالمدرس يكفي..

وليس من الضروري أن تكون للطفل لعبة جميلة، فأي كتاب يكفي..

وليس من الضروري أنْ يعتمد الإنسان على أبويه . ففي استطاعته أنْ يستقل عنهما . وأنْ يفكر وحده ولوحده .

وسارتر كان طفلاً غير عادي . بل إنه لم يكن طفلاً على الإطلاق . فقد دخل عالم الرجولة بسرعة . إو ولِد رجلاً . وفي نفس اللحظة التي اكتشف قدراته على التخيل والإبداع ، أي على المشاركة في الخلق ، اكتشف قدرته على الوقوف على قدميه : أي على أنْ يكون حراً في اختيار القيم التي تعجبه. وإذا اختارها أصبح مسؤولاً عن النتائج بعد ذلك .. إذن لقد اختار سارتر الهمّ في سن مبكرة . فالحرية ثقيلة. لأنه لا حرية بلا مسؤولية. والمسؤولية عبء . وهذا العبء همٌّ ثقيل .

فهو طفل مهموم . وقد كبر الطفل. وما يزال الرجل مهموماً..

وسارتر لأنه من أسرة متدينة كاثوليكية ، فهو متدين – أو على الأصح، فهو رجل أخلاقي. وفيه مثالية واضحة . فهو يرى أن موقفه هذا، كطفل ، يجب أنْ يتخذه كل إنسان. كل طفل والويل للطفل الذي لم يستغنِ عن أبويه وعن الشعور بهما في سن مبكرة.

وليس غريباً أنْ يختار سارتر الشاعر بودلير نموذجاً للدراسة.

فالشاعر بودلير مات أبوه. وتزوجت أمّه. ولكنه لم يفعل مثل الطفل سارتر . وهذه غلطة وجودية فظيعة ، ولم يرحمه سارتر من النقد العنيف ..

فبودلير كان قد تعلق بأمه . واعتمد عليها. ورأى فيها مصدر قوته. ووسيلته إلى الوجود . فوجوده كان متطفلاً على وجود أمّه. فلما تزوجت أمّه، أحس بودلير إنه ضاع . إن عملاته ليس لها رصيد. إنه في عالم فقد قوة الجاذبية .. إنه في منطقة انعدام الوزن ..

لقد كان زواج أمّ بودلير تصفية للوجود.. كأن الدنيا كلها قد أصابها نزيف ..

ولذلك أحسّ بودلير إنه لم يعد شيئاً. لم تعد له قيمة. ولم تعد للدنيا كلها قيمة. وإنه ليس لديه ما يعطيه . فلا أهمية له، ولا أهمية لفنه ، ولا أهمية للعالم كله .. لقد أصبحت الدنيا عبئاً.. أو العبث نفسه!

وغلطة بودلير – في رأي سارتر – هو إنه جعل من أمّه إلهاً .. جعلها المطلق في دنياه ..

ولذلك فعندما تزوجت أمّه أحسّ إنه بلا إله! وكان في استطاعته أنْ يقرر إن أمّه قد فقدها . وفي نفس الوقت يختار أنْ يعيش بنفسه . وأنْ يعتمد على نفسه . وأنْ يختار قيمه الأخلاقية.

ولكن بودلير ، لكي يعفي نفسه من أعباء المسؤولية، قرر أنْ يظل صغيراً ، قرر ألا يكبر . ألا ينضج . أي أنْ يظل معتمداً على أمه .

وهذا الاعتماد على أمّه ، جعله غير حر .. أي جعله غير مسؤول . فبودلير هو الذي رفض الحرية ورفض المسؤولية .. واختار أنْ يظل "عالة" على أمّه .. أي أنْ يظل يفتقد ثديها ليرضعه . وعندما لا يجد ثديّ أمّه يتوهم أن هناك ثدياً . وهذا الوهم يؤكد إنه طفل . وإنه حريص على أنْ يكون طفلاً . وعلى إنه يرفض حريته!

وعندما تناول سارتر أديباً آخر هو جان جينيه ، جعله نموذجاً للفنان الوجودي..

فجان جينيه لقيط . لا يعرف له أباً ولا أمّاً. وهو لص أيضاً . وعندما وصفه الناس بأنه لص . قرر أنْ يكون كما أراد الناس وبلا خجل . وهو شاذ جنسياً . وعرفه الناس بأنه شاذ . فقرر أنْ يظل كذلك . فهو يواجه الناس بما يخجل منه الناس عادة .

وجان جينيه يتيم الأبوين. يتيم الأسرة. يتيم الطبقة . فهو إنسان قرر أنْ يضع قيمه بنفسه. سواء كانت هذه القيم خاطئة أو سليمة. فهو الذي قررها. وهو الذي اختارها. والتزمها. وواجه الناس بعد ذاك بشجاعة . فهو لم يهرب من حريته في أنْ يختار. وهو يرحب بالشعور باليتم ، لأنه يحرره من قيود الأب والأم والأسرة والعائلة والطبقة.

وقد تناول سارتر هذا الموقف في قصة قصيرة له نجد فيها البطل يتهمه الناس بأنه يكره اليهود.. ويواجه الناس بأنه يكره اليهود فعلاً وينضم إلى الحزب الفاشتي . وبذلك يتأكد موقفه في مواجهة الناس فإذا وصمه الناس بعيب ، فإنه يرد الوصمة إلى الناس بأن يتمسك بها. فالناس لا يخيفونه. وفي استطاعته أن يكون أقوى من الناس. بأن يستعير منهم الشجاعة ويتمسك بعيبه ويواجههم. وهو يواجههم باختياره لقيمة أخلاقه .. هذه القيمة تصدم الناس. ولكنها حريته التي اختارت موقفاً ..

ولأن سارتر رجل أخلاق، أي مفكر أخلاقي، فهو يرى إن الحرية تؤكد المسؤولية. وإن المسؤولية ليست فردية. وإنما هي اجتماعية أيضاً. فالذي يختار ، يختار لنفسه، ويختار لكل الناس أيضاً . أي إنه يعمل ما يجب أنْ يعمله كل الناس ..

ومن هنا كانت الحرية أخلاقية أيضاً ..

وإذا كان بعض الفنانين قد اختاروا شذوذهم ، فسارتر لا يحبذ الشذوذ ، ولكن يحبذ شجاعة الاختيار ، وشجاعة المسؤولية. وشجاعة المواجهة..

ومرة ثالثة يواجه سارتر موقفاً من اليتم الغريب: صديقته سيمون دي بوفوار..

فهي فتاة من أسرة متديّنة. لها أب ولها أمّ. ولها طبقة اجتماعية ثرية . وهي مختلفة عنه تماماً . وهي في نفس الوقت محرومة من كل حريات الأيتام واللقطاء. فهي مشدودة إلى مثاليات الأب الكاثوليكي ، وإلى أخلاقيات الأم المتدينة ، ومربوطة من أنوثتها . وعندها شعور طبقي..

وسارتر نفسه يرى إنه ليس يتيماً. وإنما يرى إنه لقيط. وهو لقيط مثالي، لأنه ليس بالفعل لقيطاً . ولكن هذا هو شعوره ، فهو لم ير أباه . ولم يشعر بأمه . وهو غريب في بيت لا يملك فيه شيئاً ، ولا يملكه فيه أي شيء .

والفرق بين سارتر وبين جان جينيه . إن سارتر اختار أنْ يكون لقيطاً . أما جان جينيه فقد وجد نفسه لقيطاً. وأصرّ على أنْ يعامله الناس كلقيط ..

أما سيمون دي بوفوار فقد اختارت هي الأخرى أنْ تكون " لقيطة" فاحتقرت كل الأخلاقيات العائلية والطبقية . وعاشت حياتها . وقررت أنْ تتزوج سارتر . ولكن بغير وثيقة. فهي لا تحترم أخلاقيات طبقتها. ولا مثاليات أمها أو أبيها . أو أهلها أو دينها.

فاختارت هي أيضاً أنْ تكون لقيطة مثالية.. وليس سارتر هو وحده اليتيم أو اللقيط ، وإنما الإنسان . كل إنسان . فالإنسان وحده على هذه الأرض . وعليه أنْ يكتشف بنفسه كل ما في الدنيا من قوانين ومن معان . لا أحد يساعده . وإنما هو وحده .. وكأنه سقط من كوكب آخر .

والعالم الذي نعيش فيه غريب عنا . ونحن غرباء عنه أيضاً . والأشياء التي حولنا بعيدة . وليس لها معنى . وإنما نحن الذي نعطيها المعنى. ونحن الذي نختار لها الطعم . والوزن والجمال والضرورة.

ولأن كل ما في الدنيا ليس ضرورياً، ولا نحن ضروريون أيضاً ، فمن الممكن ألا يكون هذا العالم . ومن الممكن ألا نكون نحن أيضاً . ففناء كل شيء ممكن . بل الفناء هو الحقيقة المؤكدة . وهذا هو الشيء المؤكد الوحيد . ولذلك فنحن لا نعرف ماذا سيحدث لنا أو لغيرنا . نحن لا نعرف . فالوجود مخيف . لا أمان فيه . ولا أمان له . بل إن الإنسان يحس دائماً أن الوجود سيمسك به من الخلف . وإنه سيجد نفسه موجوداً بصورة مباغتة . وهو لذلك يرى أنْ يواجه الوجود . أنْ يواجه الدنيا . لا أنْ تواجِهه الدنيا ..

هذه التعرية للوجود ، أو التعرية لنا في مواجهة الوجود قد صوّرها سارتر في أروع صورة في الأدب العالمي في رواية "الغثيان".

ولا شك أن الوجود الإنساني بهذه الصورة رهيب مخيف .. تماماً كالعالم الذي يراه طفل يتيم ويقرر إنه وحده قادر على أنْ يكون أباً وأماً وإلهاً لنفسه !

ولم يفلح سارتر في أنْ يتخلص من مخاوف الطفولة .. مخاوف الغربة في هذا العالم . بل إنه كثيراً ما أحس بأن هناك أشباحاً تطارده . هذه الأشباح على شكل أسماك مفترسة وكثيراً ما سقط على فراشه يلهث خائفاً .

وخافت سيمون دي بوفوار على سارتر أنْ يصاب بالجنون . ولكن سارتر حاول أنْ يتخلص من هذه المخاوف بأن يخلعها على شخص فرانتس في مسرحية " سجناء انطونا" .. ففي هذه المسرحية نجد أن فرانتس هذا يتخيل محكمة من الأسماك المتوحشة تستجديه وتحكم عليه بالإعدام..

ولكن هذه الأسماك لم تختف بعد من خيال سارتر . فهو ما يزال فريسة للمخاوف والهموم .. ولكنه – كأي طفل عملاق – قرر أنْ يواجه طفولته . وأنْ يواجه شعوره بالغربة ، وأنْ يملأ الدنيا بالمعاني والعلاقات ، وأنْ يختارها ..

وليست طفولة سارتر إلا بداية للخيوط الذهبية الحريرية الملتهبة أيضاً ..

أما كيف تحولت الخيوط بعد ذلك .. وكيف أصبحت ، فهذه بقية حياة سارتر .. وما حياته إلا كتبه .. فقد كانت – وما تزال – دنياه كلمات تعيش على كلمات ..

ففي البدء كانت "الكلمة" .. وفي النهاية تجيء الكلمة أيضاً !

عن مجلة الفكر المعاصر المصرية 1966 -عدد خاص عن سارتر