في ذكرى رحيله.. ناظم الغزالي .. محطات وذكريات

Sunday 20th of October 2019 06:54:14 PM ,

ذاكرة عراقية ,

اعداد : ذاكرة عراقية
البدايات
يقول الاستاذ عبد الوهاب الشيخلي :كانت جهادية عبد الله فرحة جدا يوم ولدته لأن – كما اخبروها لانها ضريرة– كان سليما ووسيما . فحمدت الله لأنه رزقها بطفل يطرد عنها وحشة الحياة ويملأ الفراغ الذي تركه غياب زوجها المبكر والمفاجئ .

وكانت لا تكف لحظة عن مداعبته وتسعد كثيرا بإرضاعه والاعتناء به , وحين بدأ ابنها يحبو وينتقل كانت توصي شقيقتها "مسعودة" برعايته والسهر عليه , فلم يفتقد الطفل في مراحل نشأته الأولى الحنان ولم يستشعر بالقلق أو الحزن رغم الفقر الذي تعيشه عائلته , ورغم صعوبة الحياة في تلك الفترة . ومما زاد في مرح الصبي ناظم وتفاعله الاجتماعي واقباله على الحياة , تلك الرعاية المضافة التي شهدها في بيت الحاج حمودي حسين وزوجته الحاجة صديقة , وهو البيت الذي آواه مع أمه وشقيقتها بعد أن ضاقت السبل , وكان يقع في محلة (الكرنتينة) قرب باب المعظم , وفي هذا البيت نشأ ناظم وتربى مع أولاد هذا الحاج الطيب . وفيه أستطاع أن يتلقى تعليمه دون أي منغصات تذكر , فدخل المدرسة المأمونية الابتدائية في العام 1930 وأنهاها بتفوق لفتت أليه انتباه معلميه . وفي هذه المرحلة المبكرة من حياته عرف بصوته الجميل , وولعه بحفظ وترديد أغاني الموسيقار محمد عبد الوهاب وبعض مقامات حسن خيوكه ومحمد القبانجي . وعندما لمس فيه "رجال الله الزغبي" معلم النشيد في المدرسة المأمونية هذه القدرة , أشركه في المخيم الكشفي الذي أقيم في العام 1936 في ملعب الكشافة نفسه.
وتعد هذه الممارسة أولى الخطوات على طريق احتكاك هذا الفنان بالجمهور . وفي العام 1937 دخل الغزالي المدرسة الغربية المتوسطة ونال شهاداتها بتفوق كبير نظرا لما يتمتع به من حافظة قوية وذكاء غير محدود ورغم شظف العيش الذي كان يحياه والشعور بمرارة اليتم الذي اخذ يلازمه بعد وفاة والدته وخالته . لكن الفتى الغزالي كان قد قرر الصمود ولم تمنعه الظروف الصعبة التي تحيق به عن مواصلة دراسته وتحقيق طموحاته الفنية , فدخل بعد أن أنهى الدراسة المتوسطة معهد الفنون الجميلة – قسم التمثيل في العام 1940, وكان معه في دفعته – الدفعة الثانية التي تتخرج من المعهد – الطرب رضا علي والفنانون فخري الزبيدي وخليل شوقي وناجي الراوي وحامد الاطرقجي ومحمود قطان , ولكنه ما لبث أن ترك المعهد بعد أن مكث فيه سنتين , ليعمل مستخدما في أمانة بغداد ( أمانة العاصمة ) . وكانت أمانة العاصمة في تلك الفترة تظم بين من يعملون فيها مجموعة من الفنانين منهم فخري الزبيدي وسالم حسين وجاسم العبودي وعبد الجبار توفيق , وكان الغزالي كثير التردد عليهم فتوثقت صلته بهم , سيما بفخري الزبيدي وسالم حسين الموسيقي المعروف .
ولما شعر ناظم الغزالي أن الوظيفة تحول دون تحقيق طموحاته , قرر العودة إلى معهد الفنون ثانية . وكان ذلك في العام 1947 . ومنذ العام 1954 تألق ناظم الغزالي وتميز بالعطاء الثر والموهبة الأصلية . وطارت شهرته لتعم آفاق رحبة من الوطن العربي , ولمع نجمه , ولم يتح لمطرب عراقي قبله , وربما بعده أيضا أن حقق مثل هذه ( النجومية ) من قبل .
القبانجي يرثيه
وقف الفنان الكبير محمد القبانجي على جنازة الغزالي عند دفنه ورثاه بكلمة مؤثرة جاء فيها :
ظهرنا للوجود وكل شيء
له بدء لعمرك وانتهاء
لئن ذهبت اوائلنا ذهابا
فأولنا وآخرنا سراء
- أخي الحبيب ناظم: لا تسل عن عظيم كدري حين علمت بخبر وفاتك على حين غرة.. فكنت والله.. لا أعلم أفي يقظة أنا أم في منام، ولا تسل عما عراني من الدهشة والانقباض، وما ألم بجوانحي من الكدر فقد كانت ساعة لا ترى فيها عيناً باكية وقلباً خافقاً وكبداً تتقطر من الأسى، فلله تلك الساعة ما أمرها على القلب بكيت.. نعم بكيت أنا وإخوانك الأوفياء الأصفياء عندما رأيناك مسجى على فراش الموت والابتسامة على شفتيك.. ان صوتك الحنون ينبعث مع الأثير الصامت وكأنك تقول لا تبكوا عليّ أيها الأخوان فأن كنت سأغيب عنكم بجسدي فأنني لن أغيب عنكم بروحي.. نعم بكينا ولو كان البكاء يجدي نفعاً لبللنا الثرى بدمعنا وأضفنا اليه من دم القلوب والأحداق، لقد كنت وإخوانك نرقب مجيئك بعد غياب طويل عن أرض الوطن، وبعد هذه السفرة التي كنت فيها على ميعاد مع الموت والتي كنت فيها نجماً ساطعاً بفنك وأدبك في الأقطار العربية، لقد كنت مثالاً للمغني الأديب الناجح، وقد أبيت ان ينعتوك بما أنت أهل له تواضعاً واعترافاً بأستاذك المفجوع بك، فقد كنت والله ترتفع باعترافك وتسمو بإنصافك.

شهادة سالم حسين
ويذكر الموسيقار والملحن العراقي سالم حسين عن صديقه الغزالي في تحقيق نشرته مجلة الصياد اللبنانية سنة 1979 قائلا عن بداية العلاقة :
لتقينا للمرة الاولى في العام 1942، في اليوم العاشر من الشهر الاول على وجه التحديد، وهو تاريخ لا يمكن ان انساه لاننا تعينا فيه معا في الحكومة، ولما كانت الحرب ايامها ، مستعرة الاوار، فقد الحقنا معا، بصورة مؤقتة، في امانة العاصمة بغداد ، وفي قسم كان يعرف باسم مشروع الدقيق... كان بين مهامه توفير الطحين للجماهير.. وقد ظل ناظم في موقعه الاول، في حين نقلت انا الى قسم التفتيش على الملاهي.. وحرص ناظم، بعد ان توقفت العلاقة بيننا على ان يرافقني في جولاتي التفتيشية.
مفتش ضريبة الملاهي له دائما استقباله الحذر من قبل اصحاب الملاهي، هكذا جرت العادة، حتى يغض الطرف عن بعض المخالفات او يغمض العين، عما لا يدرج في الكشوفات.. كان سالم يحل ضيفا معززا هو وصديقه، فيجلس الاثنان الى مائدة منزوية ليتابعا البرنامج..
وبدأت اذن ناظم تتحول الى جهاز دقيق للالتقاط.. بدأت قدمه تتابع النغمة بالدق على الارض تحت المائدة.. ثم انتقل الامر الى نقرات من اصابعه على الطاولة..- وصلنا الى مرحلة اكثر نضجا، كان ناظم يستمع ليلا الى الاغنيات الي تقدمها شهرزاد، وامال حسين وليلى حلمي وهن من المطربات المصريات اللواتي ذاع صيتهن في تلك الفترة: فيجيء الي في اليوم التالي لامسك عودا قديما فغنى ناظم واعرف انا بالرغم من انه لم يكن درس الغناء وللاننا لتعلمت العزف على العود.