ريجيس دوبريه...خمسون عاماً على كتاب -ثورة في الثورة-

Tuesday 29th of October 2019 07:47:11 PM ,

منارات ,

عبدالرزاق دحنون
مَنْ مِنْ أهل اليسار في سبعينيات القرن العشرين لا يتذكَّر كتاب "ثورة في الثورة" لذلك الشاب الفرنسي اليساري الأنيق ريجيس دوبريه؟ هو واحد من أكثر المثقفين الماركسيين الفرنسيين شهرة -له اليوم أكثر من سبعين كتاباُ- خاض تجربة ثورية غنية وحاول أن يُزاوج ما بين النظرية الثورية ، والممارسة الثورية، حيث "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية" وقع تحت تأثير فيدل كاسترو والثورة الكوبية وكتب بحثاً قيِّماً في كُتيِّب صغير سماه" الكاستروية مسيرة أميركا اللاتينية الطويلة" وكان مُناضلاً فرنسياً وسيماً بلحية شهباء قصيرة يتشبَّه بذلك الأرجنتيني الناري تشي جيفارا-على كل حال إن التشبُّه بالكرام حميدُ- وهو ما يزال في السادسة والعشرين من عمره.

صعد جبال أمريكا اللاتينية الوعرة وقابل "دوغلاس برافو" الجامعي الشيوعي المتمرد في أحراش فنزويلا وكتب عن ذلك اللقاء التاريخي. عاش في كوبا سنوات وجسّد أطروحاته الثورية في منشوره المشهور الصادر عام 1966 تحت عنوان “ثورة في الثورة”. لحق أرنستو تشي غيفارا إلى بوليفيا, فوقع أسيراً في شهر نيسان من عام 1967 في قبضة الجيش البوليفي النظامي. وصدر بحقه حكم بالإعدام خُفِّف إلى السجن لمدّة ثلاثين سنة، وبفضل مفاوضات شاقة وحملة فرنسية دولية لمساندته قادها ابن بلده الفيلسوف جان بول سارتر. وفي المحصّلة، أمضى ريجيس دوبريه في السجن مدّة أربع سنوات. كتب هناك كتابه "مذكرات برجوازي صغير بين نارين وأربعة جدران".
تُرجم كتاب "ثورة في الثورة" إلى العربية في دار الآداب في العقد السابع من القرن العشرين. وكان يومها صرعة ثورية حقيقية تركت تأثيراً مذهلاً على الشباب الثوري في تلك الحقبة من التاريخ. وقد أجاد رسم غلاف الكتاب الرسام المصري المعروف جمال قطب, ومن ثمَّ تبعته مباشرة ترجمة كتاب "دفاعاً عن الثورية" جلسات محاكمة ريجيس دوبريه في بوليفيا.
واليوم بعد أن اقترب من الثمانين من عمره يقول ريجيس دوبريه: إن إحدى مفارقات الثورات أنها تؤدي إلى إبطاء سير الأشياء، بعد تسارع كبير في البداية، قبل أن يتحول لاحقاً إلى منظومة مكابح ثقيلة. هناك في الثورات مناسبات كثيرة للفرح والبهجة، ولكن أيضاً للحزن والعزاء، وعلى المدى الطويل تتحول البهجة إلى مرارة، وأحياناً كثيرة إلى كوابيس. سبق وكتب فكتور هوغو عن ذلك, فالانتفاضة الباريسية الكبرى حملت إلى السلطة- وهذه مفارقة جديدة- نابليون الثالث، وهو إمبراطوري جداً، وأحمق بالمناسبة. البؤس يقود الشعوب إلى الثورات، والثورات تعيد الشعوب إلى البؤس، هذا ما قاله فكتور هوغو الذي يستشهد به دوبريه. إنها حلقة تراجيدية كوميدية مستمرة.
الثورات التكنولوجية فقط، وليس السياسية، في رأي دوبريه، تشذ عن هذه القاعدة، لأن لا عودة فيها البتة إلى الوراء. لن نعود إلى الشمعة بعد أن اخترعنا الكهرباء، ولا إلى السفن الشراعية بعد أن ابتكرنا المحركات. الإنترنت غيّر وجه العالم. هنا تقبع محركات التاريخ الحقيقية الضامنة الوحيدة لتقدم لا رجعة فيه إلى الوراء ,سواء كان جيداً أو سيئاً.
الثورات الأكثر تأثيراً في التاريخ هي تلك التي لم يحركها، أو يعلنها، أو يبرمجها إنسان، هي تلك التي لا قائد لها ولا عَلَم، والتي تقدمت حثيثاً من دون ضجة خلسة على أصابع أرجلها، وفي سرية، أي من دون كشف هويتها-مع أن الأقمار الصناعية كشفت لنا كل مستور- وفي مجتمعات ما بعد الصناعية هناك ساخطون ومضربون ومحتجون، ولكن نادرون جداً ما يتكلمون عن القيام بثورة، كما حدث في ثورة الطلاب الأوروبيين في أيار 1968 التي كانت من هذا المنظور، غناء بجع الآمال الثورية. الكلمة السحرية التي حلَّت محل كلمة ثورة هي كلمة ديمقراطية، فلكل حقبة تاريخية مفرداتها الخاصة. لقد حمل الشاب ريجيس دوبريه فكراً ماركسياً – لينينياً واضحاً ونضج على هذا الفكر, وها هو في الثمانين من عمره, ولا نستطيع القول بأنه ابتعد أو ترك أو هجر هذا الفكر الذي بقي حيَّاً -وفي ظني- ما زال يَسترشد به حتى اليوم في كتاباته المتنوعة.