غرامشي في زمن المظاهرات

Tuesday 5th of November 2019 06:50:19 PM ,

منارات ,

مصطفى شلش
ما بين عامي 2018-2019، شهدت عدة بلدان عربية موجة جديدة من التظاهرات، بداية من العاصمة الأردنية "عمان" التي تتجدد فيها الوقفات الإحتجاجية السلمية بين الحين والآخر، مرورًا بتظاهرات حاشدة مستمرة في السودان أسقطت نظام الرئيس عمر البشير، وصولًا للحشود الجزائرية التي نجحت في إنهاء حقبة الرئيس بوتفليقة بإعلانه عدم الترشح للرئاسة لعهدة خامسة للحكم والتقدم باستقالته. حتى وصلنا للحظة التظاهرات المصرية في زمن السيسي.

وهذه اللحظات التاريخية الفارقة والمضطربة تُمكننا من قراءة وطرح أفكار تتعلق بالحِراكات الثورية عمومًا، دون تحديد نطاق جغرافي لها وجماهير بعينها لوجود إختلافات بين كل بيئة وأخرى، وبالممارسة السياسية خصوصًا مع الأخذ في الإعتبار أنه من غير المفيد الركون إلى مبدأ القياس النابع من الفكر الصوري في قراءة الأوضاع الثورية وتحديد الممارسة السياسية لها حتى لا نصل إلى قراءة ظاهرية مشوشة للواقع الفعلي القائم على الأرض.

ولكن من المفيد تقديم قراءات فكرية ثورية مثل أعمال الفيلسوف والمناضل الماركسي أنطونيو غرامشي (1891 – 1937) وتحديدًا كتاب "في الوحدة القومية الإيطالية " الذي انطلق فيه من فكر جدلي فأنتج عدة مفاهيم وأفكار جمعَ فيها بين التاريخ وبين علم الإجتماع مُقدمًا نظرية للممارسة السياسية.
التعامل مع الدولة
في كتاب "في الوحدة القومية الإيطالية" انطلق غرامشي من مفهوم ثنائي وهو الدولة/المجتمع المدني، أو المجتمع السياسي/المجتمع المدني، مؤكدًا على ضرورة عدم الخلط بين مفاهيم الدولة، والمجتمع المدني، والجماهير المنفردة.
ونبدأ بتعريف الجماهير المنفردة وهي الجماهير المُشاركة في التظاهرات والإحتجاجات والإضرابات بقرار شخصي وغير منضوية تحت لواء أحزاب أو نقابات. كما عرّف غرامشي المجتمع المدني بأنه "مجموع المؤسسات المضاف لها علاقات إقتصادية". وعرّف الدولة في ضوء "الدولة الأخلاقية" عند الفيلسوف الألماني هيغل (1770-1831) المستمدة من الأصول الفلسفية والثقافية الليبرالية وربطها بمفهوم "الدولة-الشرطي" أي الدولة التي لا يتعدى دور مؤسساتها دور فرد الأمن فيها – فهي دولة لا تنتج خدمات للمواطنين بل تنتج عُنفاً بصور مختلفة إلى جانب شبكة من النشاطات العملية والنظرية والتي لا تكتفي الطبقة الحاكمة بواسطتها بتبرير سيطرتها والمحافظة عليها فقط، وإنما تعمل على كسب الموافقة النشطة من أفراد الشعب المحكومين بشكل دائم.
وفي ضوء مفاهيم (الدولة، المجتمع المدني، الجماهير المنفردة، الدولة الشرطي) بني غرامشي فكره من أجل أن تتمكن الجماهير من إصلاح / تغيير ما تريده من سياسات الدولة عبر إضافة مفهوم "الهيمنة" الذي عمل على صياغته. وتعتبر الهيمنة الغرامشية هي "التكملة" للمفهوم الشامل للدولة من خلال تَملك المجتمع "المدني خصوصًا" قوته لصد عنف الدولة عبر "الهيمنة الثقافية".
ويتضح من التجارب الفاشلة/المهزومة لحركات الربيع العربي عام 2011 أن غياب فاعلية المجتمع المدني/السياسي –الممثل في الأحزاب والنقابات- الذي قد يعني أن الحراك القائم لا يفتقد نشاطات وأفكاراً سياسية فعالة للتغيير، بل لا يحتوي على أي فكر إجتماعي وإقتصادي وحتى أخلاقي ضروري ليُطرح كبديل لما هو قائم سابقًا والمطلوب تغييره. مما يجعل أفراد أي حراك والمُطالبِين بالإصلاح والتغيير أمام وجه الدولة/الشرطي كما يقدمهما غرامشي. أي عليهم أن يواجهوا العنف القسري عبر الأجهزة السلطوية العسكرية والأمنية وترسانة القوانين التي تنتجها السلطة لمحاصرة دعوات التظاهر وتضييق الحريات لمنع أي خطر أو محاولات لخلخلة بنى النظام عبر وسائل التواصل الإجتماعي ومواجهة أفكاره، مثل قانون "الجرائم الإلكترونية " الذي صار قائماً وفعالاً في أغلب البلدان العربية. ولهذا لا يعني عدم وجود مواجهات مباشرة مع قوات عسكرية (الشرطة والجيش) أن الدولة تخلت عن عنفها ولكنها تمارسه بما يعرف بـ "القوة الصامتة" أي أنها تحول عنفها تجاه المعارضين عبر ترسانة من القوانين.
وقد قسّم غرامشي "الهيمنة" إلى طبيعتين: سياسية وثقافية، وإلى مستويين: دولي ومحلي. ومن هذا المنظور لم يكتف غرامشي بإلقاء الضوء على دور الدولة (محليًا) من خلال المؤسسات الثقافية كالمؤسسات الدينية والإعلامية والتعليمية والسياسية كالبرلمانات والتي تقوم بهيمنة وعنف يوازي هيمنة وعنف القوات العسكرية، وإن كانت فعالية الأخيرة وطريقة تعاملها مع الجماهير تتوقف على مدى تأثير الأولى. كما ألمح غرامشي بشكل مستقبلي إلى هيمنة الدول الكبرى (دوليًا) على غيرها (سياسيًا) عبر مجلس الأمن واللجان الأممية، و(ثقافيًا) عبر المؤسسات الدولية والشركات العابرة للقارات والتي صارت الممولة الرئيسية الآن لنشاطات المجتمع المدني.
لذا نبّه غرامشي لنقطة شديدة الخطورة، وهي مسؤولية الجماهير أو قادتها في مواجهة التوافق والسيطرة التي يحققها النظام على المجتمع المدني عبر التحكم الكامل في الأحزاب والنقابات وتعميم فكر النظام السلطوي الحاكم (نظام دولي كان أو محلي) وتحويله إلى رأي عام وحس مشترك لدى فئات واسعة من الشعب، وخصوصًا لدى أصحاب المراكز والنفوذ في الحقل الإقتصادي والحقل الثقافي. ولهذا يطالب غرامشي بالإنتقال من الوعي النقابي/ الحزبي إلى الوعي السياسي الفردي المباشر وتحرر المتظاهرين من أي فكر إقتصادي خاص ومطالب فئوية. وذلك لكي يستطيعوا تقديم أنفسهم للمجتمع، كنواة مشروع تغيير شامل وليس مجرد مطالبين بإصلاح لا يقوم إلا بتغيير الوجوه مع ثبات السياسات أو تدهورها.
ودون إدراك ما سبق، ودون النظر للمرحلة التاريخية لتكوين الدولة وفهم أنها، أي الدولة، ليست جهازاً للحكم فقط وإنما أيضاً جهاز للقمع على كافة الأصعدة لا يمكن إستبداله –على أحسن تقدير- إلا بنظام آخر يمكنه الهيمنة عبر مؤسسات وآليات جديدة تخدم الجمهور الطامح للتغيير. دون كل ما تقدّم سنسقط في فخ إتاحة الفرصة للنظم الإستبدادية القائمة لإدعاء مبدأ الخصوصية القُطرية (مثلاً أن الدولة عشائرية – قبائلية – تقوم على حكم فئات أو أوليجاركية ... إلخ) وهذا الوضع الخاص المُدعى يمد الحاكم الإستبدادي بظرف واقعي لبقائه لأنه يُحافظ على بقاء الفرد – دون النظر إلى وضع الفرد الإجتماعي- وتكوين الأسرة، وبالتالي تعثر ولادة مُجتمع مدني.
وفي حال عدم ظهور مجتمع مدني مستقل خلال فترة الأزمات العضوية –لحظات من الإنسداد السياسي والثقافي في عُمر الدول- وقادر على إنتاج هيمنات بديلة، لن يكون لدى أي فكر ثوري إلا قليل من الدعم. مما يجعلنا أمام طريقين أحدهما البطش الشديد بالحراك الثوري وفشله، أو ظهور نظام عسكري (يحكم بشكل مباشر، مثل مصر في 2011 عندما كانت تحت حكم المجلس العسكري، أو غير مباشر مثل مصر حالياً). ويعنى هذا النظام العسكري بإعادة رسم الخريطة الطبقية في المجتمع وكبح أي حِراك من قِبل الجماهير، سواء كانت جماعات أو أفراد، أي يعمل على استعادة النظام – النظام مِن وجهة نظره والنظام الذي يتماشى مع مصالحه الخاصة- في حالة خروج الاوضاع عن السيطرة.
ضد المثالية الثورية
وبناءًا على ما سبق، أوضح غرامشي أن المثاليات والطاقات الثورية، في ظل غياب عامل "الهيمنة الثقافي" عن المشهد الإحتجاجي الثوري أحيانًا تكون عاجزة عن تحقيق أهداف أي حركة إحتجاجية/ثورة بداية من أبسط مطالبها الذي قد يتمثل في الإصلاح وليس في تغيير جذري للنظم السياسية أو الطغم الحاكمة. ويبدأ بطرح خطوة من أجل نجاح الحركات الإحتجاجية وتتمثل في الإعتماد على إحتلال الخنادق الخلفية للدولة الممثلة في المؤسسات التعليمية والدينية والثقافية التقليدية. أي على المتظاهرين المشاركين في أي فعاليات إحتجاجية محاولة إنتاج فكر جديد يتعلق ببيئتهم وطريقة تعاملها مع أفرادها ومحاولة فك أي إرتباط سلبي بهذه البيئة الإجتماعية الحاضنة. وبنفس الكيفية إعادة رسم العلاقات الأسرية وكيفية الخروج من سيطرتها، وبناء خطاب أخلاقي/ديني فعال وقريب من المواطن ومشاكله ليتمكن من طرح بديل فعال عن الجماعات الدينية التقليدية الممثلة في الإسلام السياسي مثلًا كالأخوان المسلمين والسلفيين، ومؤسسات الدولة الدينية.
وما سبق قد يتم عبر التحليل (النظري – العملي) لمفهوم "الهيمنة" الذي كان له تاريخ طوي في تقدمه الفلسفي والمعرفي وفي تطوره السياسي أيضًا، والذي يمكن نشره وتعميمه بين أوساط المحتجين في الميادين وخارجها عبر وسائل التواصل والمواقع الصحفية الشبابية البديلة لإعلام الدولة.
ويؤكد غرامشي على أن تحقيق مفهوم "الهيمنة" يجعل المجتمع المدني بمثابة حصن داخلي للفكر البديل. ويسمح وجوده بإعادة بناء توازن صحيح بين الدولة "بمؤسساتها" وبين الأفراد. وهذا ما لا يجب أن يغيب عن ذهن القائمين على حراك ثوري. ولهذا يشدد غرامشي على ضرورة إعطاء أهمية خاصة وفائقة للبنية الفوقية، وللمثقفين العضويين، حيث أن الهيمنة الثقافية هي المحرك "الدينامو" للدور السياسي للطبقة، أي انتقال البنية التحتية وتناقضاتها إلى البنية الفوقية، لكي يتم بناء تنظيم ثوري يستطيع أن يحكم الأرض. وأن يكون التنظيم جامعاً للطبقة الشبابية وحلفائها الموضوعيين –أبناء الطبقات الأخرى المنحازين للطبقة الثورية-.
ومن خلال وعي هذه الطبقة المهيمنة الثورية ومهامها السياسية والتاريخية، التي تقوم على رؤية نظرية شاملة، وبرنامج سياسي تنفيذي على الأرض، وعبر تحمل مسؤوليتها بقيادة الإحتجاجات، وبالتالي مسؤولية تحديد برنامجها، وخلق أفكار وبدائل حديثة وجديدة، بما يعني ذلك خلق مجتمع مدني، وتحطيم الجهاز الحكومي السلطوي القائم لتحقيق أقصى استفادة من الإنتفاضة وتحولها إلى ثورة إجتماعية.
قبل أن أنتهي من طرح قراءتي لفكر غرامشي في كتابه «في الوحدة القومية الإيطالية» يجب أن أشير إلى الحاجة المُلحة لنمط جديد للاحتجاج بشكل أكثر فاعلية في عصر العولمة، ومحاولة جديدة لإنتاج نظرية ثورية "مهيمنة". وربطها بشرائح مجتمعية جديدة مُتعلمة ومُتمدنة ذات وعي يمكنه التعامل مع الأزمة الراهنة وتجاوز هذا الوضع المُدعشن – العدمي الذي تعمل الحكومات العربية الحالية على تصديره والتعامل من خلاله. فالخوف من الأصوليات الدينية هو الوقود الذي يحرك الديكتاتوريات والحروب الإمبريالية بشكلها الجديد المعولم لتبرير سياستها الإقتصادية والأمنية .مما يجعل تحليل وقراءة تاريخ الهيمنة الثقافة الثورية على الأرض وكيفية السيطرة على مجريات الأمور خلال اللحظات الثورية يكتسب أهمية خاصة. وهذا عبر ربطه بالواقع العربي لتحديد درجة تطور أساليب الإنتاج وموقع حركة رأس المال في العملية الإنتاجية .‏
لهذا يمثل الطرح النظري لعملية الهيمنة الثقافية بشكل أولي ضرورة لفهم نفسية وطريقة تفكير المواطن المقهور، ومحاولة صنع بديل مدني لطرح سياسيات إقتصادية وإجتماعية جديدة ومناسبة في ضوء علاقات الإنتاج الخاصة به، بعيدًا عن فزاعة الأصولية الدينية.ويمثل غرامشي أهمية إستثنائية لأن مفهوم الهيمنة يشكل محوراً مركزياً واستراتيجياً في الصراع الايديولوجي والسياسي داخل أي حركة ثورية عربية -خصوصًا- أو حتى إفريقية، لاتينية، آسيوية تطمح للتغيير، وتعتبر الهيمنة عنصراً هاماً في سياق بلورة نظرية ثورية أو حتى إصلاحية من أجل التغيير.‏
لذا فالعمل النظري على إنشاء فكر مهيمن ثقافي مضاد للدولة القمعية هو عمل مقاوم وامتداد وتطوير لكل الأفكار التقدمية والتحررية في العالم، ودرب هام من دروب الثقافة البديلة. ويمكن إعتبار إنشاء نظرية ثورية مهيمنة قاعدة مشتركة كونية حقيقية نعبرعنها بوصفها مطلباً إنسانياً من أجل رسم طريق للحرية والكرامة.
• عن موقع الحوار المتمدن