شيء عن عزيز علي

Monday 11th of November 2019 10:09:09 AM ,

عراقيون ,

رفعة عبد الرزاق محمد

على غير عادته ، هاتفني الاستاذ عبد الحميد الرشودي ( رحمه الله) صبيحة يوم الخميس السادس والعشرين 1995 ناعيا لي الفنان القدير عزيز علي الذي كان يتديربيتا قريبا من بيت الرشودي ، وان تشييعه سيتم قبل ظهر ذلك اليوم . اتصلت بالاستاذ حارث طه الراوي القريب من بيتي وابلغته بالامرالذي هاله وقرران يرافقني الى مكان توديعه . وذهبنا سوية الى التشييع الذي انطلق من بيته قرب السكة الحديد في حي الداوودي ،

ثم حمل نعشه الى مقبرة الكرخ في ابي غريب تتبعه بضع سيارات لمشيعيه من الاصدقاء والاقرباء وعارفي فضله بلا جهة حكومية ، ووري التراب في المجموعة (25)في تمام الساعة الثانية عشر من ذلك اليوم الحزين ، ثم انفرط عقد المشيعين وذهب كل لطيته ، لتنتهي صفحة من صفحات اعلامنا اللامعين التي استمرت ستة وثمانين عاما .

كنت قد جالسته في بيت الرشودي في السنوات الخمس التي سبقت رحيله الاخير ، ففي يوم من ايام سنة 1990 عرفني الرشودي على رجل اثقلته السنوات العجاف، ضئيل الحجم ،وناحل الجسد ، محني الظهر، يرتدي ( دشداشة) تعلوه ابتسامة لا تفارق حديثه ، ولم اصدق ان الذي يجلس امامي هو عزيز علي المنلوجست الشهير والناقد الاجتماعي والسياسي اللاذع الساخر ، ولكن الزمن افقده الكثير من وسامته وطوله الفارع وما كنت اشاهده بها وهو يقدم اغانيه في التلفزيون ، اغانيه التي سارت مسير الامثال ورددها الشعب العراقي في محافله المختلفة ، او ما كنت اتأمله وهو يسير في منطقة الصالحية حيث مبنى الاذاعة والتلفزيون . لم يبق من عزيز علي عندما جالسته في دار الرشودي الا تلك الذكريات الجميلة والابتسامة الجميلة والضحكات المليئة بالدلالات ! . ذكر لي الرشودي انه كان يذهب مع الفقيد عزيز علي الى الاسواق وكان جميع اصحاب المحال يودون مزاحه وضحكته وتعليقاته .. والقليل منهم يعرف تاريخه الفني الكبير .

بقي عزيز علي عزيز النفس ، عصي الدمع ، ولكل امريء من اسمه نصيبا ، على الرغم مما نزل عليه من الحوادث والفواجع في السنوات التي اسدلت عليه السلطة ستائر النسيان والاهمال ، حتى بعد رحيل ابنه الوحيد وفلذة كبده ( عمر) فقد احتسبه لله ولاذ بالصمت البليغ والصبر الجميل ، ثم وفاة زوجته ورحيل اخوانه والكثير من اصدقائه واقرانه ممن عرف فضله .

في جلسته يستمع باهتمام الى حديث جليسه ، واحيانا يرد باصرار على ما لا يتفق به مع المتحدث وان كانت الحجة دامغة والدليل واضحا . غير انه كان لا يقبل المداهنة والمراءاة ، ويذكر الاحداث لسائليه كما جرت وكما يذكرها . وكان حديثه رحمه الله واضحا يضم من الامثال والكنايات والالفاظ الطريفة والمأثورات الشعبية ماهو جدير بالتأمل والاعتبار . سمعته يتحدث مرة عن نوري السعيد وعشقه للمقام العراقي والموسيقى الشرقية وانه جاء مرة الى دار الاذاعة ليستمع الى حفلة للمقام يؤديها يوسف حوريش قاري المقام العراقي وخبيره في الاذاعة ، وكيف ان السعيد حاول غير مرة ان يمنع سفر حوريش الى فلسطين سنة 1950 ، الا ان حوريش كان مصرا على الرحيل واستطاع اقناع السعيد باهدائه مجموعة كبيرة من التسجيلات الصوتية النادرة ، وقد قام نوري السعيد بتقديم تلك المجموعة النفيسة الى اذاعة لندن سنة 1954 . اقول ان عزيز علي كان يتحدث عن الموضوع بطريقة بغدادية محببة لينهيها بقوله الساخر : الكو... حوريش كانت عنده مجموعة اخرى واحسن من تلك نقلها الى فلسطين واعطاها الى اذاعة اسرائيل .

*****

تتجلى عبقرية عزيز علي في انه كان ينظم نصوص منلوجاته ويلحنها ويؤديها ، وهذا امر نادر بين المغنين ، وكانت نصوصه مستوحاة من الواقع الاجتماعي والسياسي بدون مواراة ، نظمه كان مباشرا بصور ساخرة متهكمة يخاطب به الناس بلغتهم وقيمهم واعرافهم وما هو سائد بينهم ، والحانه راعى فيها الاصول الموسيقية على الرغم من عدم تعلمه الموسيقة او كتابة النوطة ، وتنقله بين الانغام والمقامات جرى على السليقة ، فقد كان حافظا للالحان العربية القديمة والحديثة وهذا ما مكنه من تقديم الحان على مستو راق من التأثير والجمال .. والحداثة ، اما صوته فكان صوتا جميلا تألفه الاسماع بسهولة ، ويمتلك مؤهلات المطرب المؤدي بصوت كامل واسع المساحة ويمتلك الجواب وجواب الجواب كما يذكر المعنيون بالموسيقى .

*****

سمعت كثيرا حول اصوله ( القومية ) ، ولاسيما انه ولد في محلة بغدادية تضم العديد من الاجناس ( محلة الشيخ بشار في الكرخ ) وان اسرته نزحت من كربلاء واستقرت ببغداد ، غير ان اسمه الكامل يجعلني اتردد بقبول ما سمعته بسهولة ، فهو عزيز بن علي بن عبد العزيز بن علي بن حاتم بن هانيء ، وعلمت منه ان والده كان من الصياغ الماهرين والمشهورين ، وهو الذي صنع القفص الفضي لمرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني ببغداد ، وان وفاته كانت سنة 1930 .

*****

سجن عزيز علي سنة 1972 بتهمة الانتماء للماسونية ، وكان ذلك من النقاط المثيرة والخطيرة في حياته ، وكان قد تحدث لصديقه الاستاذ عبد الحميد الرشودي عن الموضوع ، ونقل لي الرشودي ذلك الحديث وملخصه كما يلي : يقول عزيز علي انه بعد فصله من الوظيفة في الاربعينيات ، فتح محلا لبيع الاحذية في مدينة كربلاء ، وفي احد الايام زاره في المحل صديق له وسماه ( ..... ) ، فراى الضائقة التي يمر بها ، واشار عليه بزيارة شخصية سياسية وعسكرية كبيرة هو المرحوم ( توفيق. و ) ليساعده في اعادته الى الوظيفة . ولما ذهب الى تلك الشخصية وعرض عليه حالته ، رد عليه هذا بانه موهوب وشخصية معروفة وعليه سيتفق مع جماعة او ( منظمة ) انسانية يمكن مساعدته عن طريقها بعد الانتماء اليها . يقول عزيز علي انه عرف فيما بعد ان تلك الجماعة من الماسونيين ، غير انه ــ كما اقسم ــ لم يحضر اجتماعا او محفلا او عرف شيئا من نشاطهم ( الذي يقال انه سرياً) ، غير أن وثائق هؤلاء وسجل الانتماء كانت محفوظة لدى شخصية بريطانية معروفة وهو المستر ستود احد مؤسسي شركة السباق ويسمونه العوام بمستر ( اسود ) ، وبعد ثورة 14 تموز 1958 ترك هذا الانكليزي العراق واحتفظ باوراقه في صندوق في مصرف الرافدين ، وبعد عشر سنوات فتح هذا الصندوق وفق تقليد ان للبنك الحق في فتح الصندوق اذا لم يراجعه احد طيلة تلك الفترة ، ولما فتح عرفت الحقيقة وكشفت الاوراق ونقلت الى دوائر الامن يومذاك، وعرف ان عزيزا كان من تلك الجماعة المحظورة فقدم للمحكمة وحكم عليه بالسجن المؤبد بعد تخفيف الحكم لانه كان من مؤيدي حركة مايس 1941 واعتقل لسنوات بسبب ذلك .. وفي سنة 1979 اعفي من بقية مدة الحكم بسبب مرضه مع مجموعة من المتهمين بالتهمة نفسها . اما رأيه ببعض الشخصيات العراقية والاحداث التي عرفها او ساهم فيها فحديث آخر لا تسعه هذه العجالة .