من تاريخنا الديمقراطي..الجبهة الوطنية وانتخابات 1954

Tuesday 12th of November 2019 10:22:48 AM ,

ذاكرة عراقية ,

د . سيف عدنان القيسي
في ظل الواقع السياسي الجديد الذي توصل اليه اقطاب أحزاب المعارضة قرروا خوض الانتخابات متعاونين متضامنين لتنفيذ ميثاق الجبهة، ومع أعطاء بعض الحريات النسبية إستطاعت قوى الجبهة نشر ميثاقها وبرامجها الانتخابية فوزعت اللافتات في الشوارع والمحلات تحمل شعاراتها الوطنية. بلغ عدد مرشحي الجبهة (سبعة وثلاثين) مرشحاً،

مثلّ الحزب الشيوعي (خمسة عشر) مرشحاً دون الاعلان عن هويتهم، بل مرشحين مستقلين ومنهم الدكتور أحمد الجلبي(بغداد), والمحامي توفيق منير(الكوت)والشيخ عبدالكريم الماشطة(الحلة),والدكتور خليل جميل جواد(النجف) ، أما عن راية الشغيلة فرشح الشيخ محمد الشبيبي والد حسين الشبيبي (صارم),الذي أعدم مع فهد في عام 1949.

ولكن الحزب الشيوعي شكك في الانتخابات فأصدر بياناً في الثامن من أيار بين فيه موقفه من الانتخابات "أن حزبنا يدرك جيداً بأنه لايمكن أن تكون هناك أنتخابات حرة ومئات من أبناء شعبنا في داخل أسوار السجون وقلاع الموت، ولايمكن أن تكون حرة ووزارة أرشد- الجمالي في الحكم... "ودعا الشعب الى:
1) النضال لإسقاط وزارة أرشد- الجمالي الخائنة.
2) النضال من أجل حل الخلافات الدولية عن طريق التفاوض.
3) النضال لفسخ اتفاقية المساعدة الامريكية للتسلح وجلاء القوات البريطانية.
4) النضال من أجل أيصال الكتلة الوطنية الى البرلمان.
5) عقد أجتماعات شعبية واسعة في كل محلة ومعهد وشارع ومنطقة انتخابية من أجل نجاح المرشحين الوطنيين.
6) دمج النضال الانتخابي بالنضال الثوري في الشارع.
ومن جهة ثانية كانت الاجتماعات التي عقدتها الجبهة الوطنية لدعم مرشحيها قد أثارت الشرطة التي أوضحت في تقريرها "أن الشيوعيين والبعض من الرعاع في المناطق الانتخابية.. سوف لايألون جهداً من خلق أضطرابات تؤدي الى إستفزاز الرأي العام وعليه ترى الشرطة ضرورة أخطار كافة المرشحين في المناطق وإعطاء التنبيهات لهم وإيصالهم تحذير جماعاتهم بعدم القيام بأي حركة من شأنها ان تؤدي الى الاخلال بالامن وأستفزاز الرأي العام"، وهكذا توصلوا الى قناعة بأن الشيوعيين أستغلوا فرصة حرية الانتخابات لخلق المشكلات والفوضى.
وأخذت الحكومة تضيق الخناق على مرشحي الجبهة الوطنية إذ أوضحت متصرفية بغداد "أن كثرة الاجتماعات العامة في بغداد والكاظمية وضواحيها في مختلف الليالي بحجة الدعاية الانتخابية وقد تجاوزت هذه الاجتماعات الحدود القانونية... وعلى الراغب بعقد أجتماع عام أن يقدم بياناً هو وأثنان من سكان المحلة المراد عقد الاجتماع فيها ويذكرون محل الاجتماع وساعته والهدف منه ويتعهدون بالمحافظة على النظام والامن وعلى رعاية القانون"، وطلبت المتصرفية منع التجوال على شكل تجمعات لاي غرض كان وعدم أستخدام السيارات في الدعاية الانتخابية.
لم يكن يوم الانتخابات عادياً بل كان مشحوناً بالتوتر، إذ شهدت البلاد تجمعات سياسية، الامر الذي دفع الشرطة الى الانتشار في مراكز الانتخابات، كما حضر المسؤولون الحكوميون الى مراكز الانتخاب لكسب التأييد للموالين للسلطة، ومن جهتها ضيقّت الحكومة الخناق على مرشحي الجبهة، فمثلاً، أعتقلت في الحلة عبد الكريم الماشطة وفي الكوت توفيق منير، وبلغ الحد بالحكومة الى أن أفرغت أسماء مرشحي الجبهة الوطنية وأستبدلتهم بأسماء خليل كنه وعبد العزيز العريم المؤيدان للنظام الملكي.وحدثت مواجهة عنيفة في مدينة الحي، أذ دعمت الحكومة المرشح عبدالله الياسين الاقطاعي، عندما وقفت مع المرشح الاقطاعي وهو يهاجم سوق المدينة مع جماعته، على الرغم من أن ذلك الهجوم خلف قتيلين و (خمسة عشر) جريحاً، وأضربت المدينة مدة (أثنى عشر)يوماً، ولم يترك الحزب الشيوعي تلك الحادثة المروعة دون ان يكون له حضور ,إذ نشر بياناً دعا فيه الى مساندة أهالي المدينة.وعند إعلان نتائج الانتخابات فضح الحزب الشيوعي عمليات التزوير والتدخل الحكومي الصارخ الذي رافق عملية الانتخابات، وبيَن ألوان الاضطهاد والتضييق التي مارستها أجهزة السلطة لكي تحول دون تصويت الناخبين بحرية.
وعلى الرغم من كل جهود أحزاب الجبهة في تلك الانتخابات للفوز بعدد من المقاعد النيابية،أسفرت عن فوز حزب الاتحاد الدستوري بـ (واحد وخمسين) مقعداً، وحزب الامة الاشتراكي (واحد وعشرين) مقعداً، ولم يكن نصيب مرشحي الجبهة الا (أحد عشر) مقعداً فقط.
وعلى الرغم من تدني أعداد المقاعد التي حصلت عليها الجبهة الوطنية قد بينّت خلال الحملة الانتخابية أن نضال الحركة الوطنية قد شهد قفزة نوعية ولاسيما في أيضاح أهداف الجبهة الوطنية ضد الاستعمار ومصالحه وشركاته الاحتكارية.
حاولت أطراف الجبهة أستمرار تعاونها في مرحلة ما بعد الانتخابات، التي أنبثقت من أجلها، وجرت اجتماعات في دار كامل الجادرجي زعيم الحزب الوطني الديمقراطي، لكن ذلك لم يتحقق بسبب ميل ممثلي الحزب الشيوعي الى فرض مطالب لاتأخذ واقع العراق بعين الاعتبار كما يشير الى ذلك المؤرخ العراقي الكبير عبد الرزاق الحسني.وعلى الرغم من محدودية نشاط الجبهة عبرت عن نصر حقيقي للحركة الوطنية فحصلت، على ثقة الشعب، وأسمعته أهدافها ومطالبها، وتكمن أهمية الجبهة للحزب الشيوعي العراقي، كما يقول كامل الجادرجي في مذكراته، انها كانت "تجربة عملية ضرورية لكي يتعلموا منها التعامل مع الاخرين لا على أساس ما حفظوه من مسلمات أيديولوجية، وأنما على أساس أخذ الواقع الملموس بعين الاعتبار وإيجاد جسور من الثقة الضرورية بين الاطراف المختلفة".
وعلى الصعيد الاقليمي، فأن تشكيل الاحلاف العسكرية جعل منطقة الشرق الاوسط على حافة مرحلة تتسم بالتناحر اكثر من أي وقت مضى، ولاسيما بعد عقد اتفاقية المساعدات الامريكية للعراق تمهيداً لعقد الحلف التركي- الباكستاني ومشاريع الدفاع عن الشرق الاوسط، التي تبنتها ادارة الرئيس الامريكي أيزنهاور، ولهذا فليس عجباً اذا ما فسرت احزاب المعارضة الانتخابات التي دعت إليها وأجرتها وزارة أرشد العمري ليس أكثر من الهاء الشعب كي تستطيع تهيئة تلك المشاريع. أيقنت السلطة الحاكمة أن الشخص المؤهل لادارة الحكومة في هذه المرحلة هو نوري السعيد ولا أحد سواه، ولذلك قبلت استقالة ارشد العمري يوم الثالث من آب إذ قدمها يوم السابع عشر من حزيران 1954.لقد كان نوري السعيد في باريس فتوجه إليه عبد الاله لاقناعه بتشكيل الوزارة فأشترط حل المجلس النيابي الذي أنتخب حديثاً، لصعوبة عمل الحكومة القادمة او قدرتها على أصدار أي تشريع في مجلس أحتل فيه نواب الجبهة الوطنية عدداً من المقاعد، كما اشترط إنهاء المعاهدة العراقية- البريطانية لعام 1930، التي أقترب موعد نهايتها أصلاً, وتوثيق العلاقات مع دول الجوار، واشترط نوري السعيد أيضا تضييق الخناق على الشيوعيين،"وضرورة الموافقة على مكافحة ذوي المبادئ الهدامة "الشيوعيين" الموالين للاستعمار أياً كان".وفي اليوم الثاني لقبول إستقالة أرشد العمري، وجه نوري السعيد يوم 4 آب 1954، كتاباً الى الملك يلتمسه حل المجلس النيابي وإجراء انتخابات جديدة، لانه يريد تمثيلاً أوسع لتطبيق منهاج وزارته، تبعه بأعلان حل حزبه، ممهداً لحل الاحزاب الاخرى ليحقّق ما يريد.
عن رسالة : الحزب الشيوعي العراقي ودوره في الحركة الوطنية العراقية