شمران الياسري.. المحلق فـي سماء الكتابة حراً طليقاً

Wednesday 27th of November 2019 06:39:52 PM ,

عراقيون ,

جمال العتابي
شهدت العقود الثلاثة (الخمسينيات، الستينيات، السبعينيات) من القرن الماضي تحولات كبيرة في ميادين الإبداع تمثلت بالمضي نحو التجديد في مناحي الحياة كافة، وفي أساليب الكتابة والسرد وتجاوز لغة الشعر وموضوعاته، والخروج على البنى والأطر التقليدية والقدرة على الابتكار ورفض كل أشكال القيود التي تكبل حرية المبدعين وفي التشكيل والموسيقى والسينما شهدت تلك السنوات تجارب عظيمة استلهمت ثقافة العصر،

بملامحها الإنسانية والحضارية والجمالية، وقيم المعاصرة والحداثة، ومنجزات الفن الحديث في التكنيك واللغة والموضوع والخطاب.في خضم هذه المشهد، عاش (أبو كاطع)، وبدأ حياته يتنفس هواء وجوده يلتقط كل دلالات ومفردات وأسرار وصور هذا المشهد بعراقيته وانتمائه اليه.. ثم ليأخذ حيزه في هذا الوسط بجدارة، انساناً، وكاتباً ومناضلاً غير متناقض مع هذا التحول الجديد في الحياة، برغم انتمائه الريفي بثقافته ولهجته، وقيمه الاجتماعية المختلفة بأسلوب الحياة والموضوع واللغة.كيف تسنى لشمران الياسري ان يحتل موقعه الإبداعي، في ظل أجواء ثقافية كانت طاردة للمبتذل والسطحي والساذج وبعضها كان رافضاً للشعبي والموروث ويتعامل معه على انه ركام ماض جامد، لا حراك فيه ولا ينسجم مع معطيات العصر وتقنيات الكتابة الحديثة؟.ما هي اذن المواهب التي أهلت الياسري ومكنته من ان يكون احد ابرز كتاب العمود الصحفي لعقدين من الزمن ويقدم اعمالاً روائية بلغة ريفية يشهد بريادتها وأهميتها أهم كتاب الرواية في العراق الراحل غائب طعمة فرمان.تلك أسئلة عديدة يلقيها المتابع في عملية البحث عن سر تفوق الياسري وتميزه في منهج الكتابة وأسلوبها المتفرد.لا شك ان عدداً غير قليل من الكتاب يمتلكون خصوصيتهم واستثناءهم من خلال عطائهم المكتنز بالجمال والدهشة.بما هو محلي عميق الاتصال بالبيئة.(أبو كاطع) من هذا الطراز الذي اقترن اسمه برائحة الريف الذي عاش فيه معظم سنوات حياته بطينه ومائه وزرعه بفقره وجوعه، بعذابه وتمرده بسكونه وعذوبته وقبل هذا بناسه وأهله. لم يواجه (أبو كاطع) عناءً كبيراً في البحث عن أسرار اللغة واللهجة والمفردات التي وظفها في الكتابة انما كانت معيناً لا ينضب، كنزاً ثراً من الموروث مشحوناً بالعواطف والمشاعر بالقصص والحكايات والتاريخ، والألغاز والمعتقدات، والخرافات، والحقائق، هذا العالم لم يسع اليه (أبو كاطع) هو موجود فيه. ينتمي اليه عقلاً وروحاً ووجدانا انه جزء منه وتلك إحدى الميزات التي يختلف فيها (أبو كاطع) عن الشاعر الكبير مظفر النواب ابن المدينة، المثقف المتحضر المترف الذي اختار ان يحيا تجربة الريف ويعيشها بدقائقها وتفاصيلها فترك المدينة ليذهب مبحراً في اهوار العمارة وتمكن من التعرف على حياة القرية والفلاح العراقي.وأنتج بعدها ملاحم شعرية خالدة في الشعر الشعبي.فتجربة شمران الياسري مختلفة عن تجربة النواب في كثير من جوانبها باستثناء المضمون والغايات الإنسانية فالياسري لما يتمتع به من ذكاء حاد تمكن من تكريس اللهجة الريفية والموروث الريفي في حضور لافت في العطاء السردي الروائي والكتابة الصحفية.والتفت شمران الى البحث والكشف عن الإيحاءات والدلالات في تلك اللغة فأبدع في رسم الأحداث والشخصيات ومضى ابعد من ذلك في المزاوجة بين واقعين مختلفين مدني وريفي خيالي وواقعي، خرافي وعلمي وتمكن ان يقنع القارئ.(ابن المدينة) انه يقدم تجربة روائية تحمل ابتكارات جديدة ورؤى حديثة عبر عنها بلغة سهلة بسيطة لكنها ذات مغزى كبير ومضمون حي، ان روايته (قضية حمزة الخلف).. تعد مرحلة متقدمة في كتابات الياسري الروائية، في معالجتها للواقع السياسي والاجتماعي بلغة ذات حساسية عالية بالجديد والمتخيل، وتكنيك روائي حديث بدفق سردي أخاذ للنفاذ الى أعمق الأشياء. هذه السمات التي طبعت كتابات شمران، جعلتنا نكون أمام تجربة مدروسة بعناية من الصعب على آخرين الوصول اليها ما لم تتوفر لهم أدوات فن شمران وعوالمه الإنسانية الجميلة المطلقة وقدرته على إضاءة الوجوه التي عايشها حتى تلك التي كانت سبباً في اضطهاد الفلاحين وسرقة جهودهم ليسترجع من خلالها أدق المشاعر الإنسانية.وثمة ملامح أخرى في منجز شمران الإبداعي تلك التي تتعلق بموقفه الفكري والسياسي، ونعتقد ان احد أسباب نجاحه يعود الى إيمانه بحقيقة الثقافة كمعطى أنساني وجمالي في تشكيل الوعي الاجتماعي لذا كان مؤمناً اشد الإيمان بان الكتابة فعل وطني وشعبي يرتبط بدوره كمناضل يصوغ من خلاله التعبير عن حاجات الإنسان وفرصه في الحياة الحرة، فالكتابة لديه نمط من أنماط الإبداع والتطلع الى قيم جديدة كرسها في كتاباته من دون استثناء وعلى وفق هذا التوصيف فهو كاتب يعبر عن التزامه السياسي الا انه في العديد من الكتابات يحاول دائماً الافلات من شروط التعبير وفق مقاسات السياسة والايديولوجيا لابل انه فعل ذلك دائماً ليحلق بجناحيه بعيداً في سماء الكتابة حراً، طليقاً، فشمران له نزواته وخيالاته وان صح التعبير فله فلسفته الخاصة بالحياة.في الوقت ذاته، لم يخف (أبو كاطع) قلقه وخوفه وهو يستشرف المستقبل بقراءة ذكية دقيقة ويحذر من نذر شر تحملها طيات عقول الحكام