من تاريخ الاستقالات في تاريخ العراق الحديث..هكذا استقالت حكومة انقلاب 1936

Sunday 1st of December 2019 07:20:12 PM ,

ذاكرة عراقية ,

د. عكاب يوسف الركابي
على اثر مقتل، بكر صدقي، الفت وزارة الدفاع وبآمر من، حكمت سليمان، في الثاني عشر من آب عام 1937، لجنة تحقيقة، برئاسة، العقيد الوقتي انطوان لوقا (نائب الاحكام في الجيش العراقي) وعضوية، الزعيم (العميد) اسماعيل حقي الاغا، والعقيد شاكر محمود الوادي، للتحقيق في حادثة الاغتيال، وتم ايفاد، نائب الاحكام الى الموصل لأستجواب الضباط المتهمين وجلبهم الى بغداد، واصدرت الحكومة في الوقت نفسه، بيانا ً رسميا ً نعت فيه مقتل، الفريق بكر صدقي، واعلنت أسفها للحادث.

وعلى الرغم من التغيير الذي طرأ على علاقة ، حكمت سليمان ، ببكر صدقي قبيل حادث الاغتيال الا أن ، حكمت ، اتصل هاتفيا ً بآمر المنطقة، اللواء أمين العمري، وأمره أن يفسح المجال للجنة التحقيقية لاداء مهمتها ، لكن قيادة الموصل ، اعلنت في الرابع عشر من آب 1937 ، عن قطع العلاقات بينها وبين الوزارة ، بعد أن ألقت القبض على (( نائب الاحكام )) وحبسته ، ثم ارسلته مخفورا ً الى بغداد ، ويبدو ان ذلك كان بتأثير من ضباط الكتلة القومية ، التي نفذت الاغتيال ، بعد أدراكهم لنوايا ، حكمت ، ومن ورائه الضباط الموالين ، لبكر صدقي ، في بغداد ، والذين اعدوا قوائم بأسماء المطلوب اعتقالهم حملها نائب الأحكام معه ، دلت على ما قد بُيَّت لهم من مصير ، ونتيجة للاتصالات التي قام بها ضباط الكتلة مع قطاعات بغداد ، فقد أيدت قطعات بغداد ، حركة الموصل ، ولما كان لآمر معسكر الوشاش ، العقيد محمد سعيد التكريتي ، دورا ً بارزا ً في هذا المجال ، فقد طلب ، حكمت سليمان ، من وزير الدفاع وكالة ، علي محمود الشيخ علي ، ان يصحبه لمقابلته ، بعد ان رفض ، التكريتي ، الذهاب الى وزارة الدفاع .ويبدو ان ، حكمت سليمان ، اراد التصدي لحركة الجيش في الموصل والقاء القبض على أمين العمري ، ومهما يكن من أمر ، فقد ، ذهب ، مع وكيل وزير الدفاع الى معسكر الوشاش ، لاقناع آمره بالتراجع عن موقفه ، ولما اجتمع وصاحبه مع آمر المعسكر ، وعده حكمت ، بأنه سيحاول كبح جماح جماعة، بكر ، غير ان ، محمد سعيد ، وضع شروطا ً للتفاهم ، منها ، أبعاد ، بعض الضباط من أنصار ، بكر عن مناصبهم لحين هدوء الأحوال ، وعدم تدخل الجيش في السياسة .
اضطر ، حكمت سليمان ، بعد ان ادرك انه اصبح في موقف حرج ، نظرا ً لتأزم الوضع الداخلي ، وتأييد وحدات الجيش لموقف ، حامية الموصل ، وخشية الملك غازي من انشقاق الجيش الى الاستجابة الى مطالب الكتلة القومية ، فقدم استقالته ، في السابع عشر من شهر آب 1937 ، الى الملك غازي وقبلها الاخير . جاء في كتاب الاستقالة (( مولاي صاحب الجلالة ، ، نظرا ً الى ان حالة البلاد الراهنة لا تمكنني من الاستمرار في تسيير اعمال الدولة ومصالح المملكة ، فاتقدم بعريضتي هذه راجيا ً من مولاي ايده الله ان يتفضل بقبول استقالتي من رئاسة الوزراء واني لا ازال لجلالة سيدي . الخادم المطيع حكمت سليمان )).
وهكذا قتل ، بكر صدقي ، مصدر قوة ، حكمت سليمان ، وقتل في الوقت نفسه سبب ضعفه ، ان ما فعله ، حكمت سليمان ، حين اراد ان يتدارك الموقف وان يصبح بحق رئيس حكومة ، من خلال التحقيق في قضية الاغتيال ، أمر فات أوانه ، لان المعادلة مترابطة لا تقبل الفصل ، فقوته ، كانت مرتبطة بحياة ، بكر صدقي ، الذي سقط برصاصة الاغتيال في مقدمة رأسه وصدره ، ولقد تأكد ذلك ، لحكمت ، عندما اعلنت ، حامية الموصل ، تمردها على الوزارة مطالبة اقالتها ، وتلك كانت اسباب كافية جعلته يسلم بالحقيقة .
قرر ، الملك غازي ، تكليف ، جميل المدفعي ، بعد ان استدعي هاتفيا ً من لبنان ، بتأليف الوزارة ، وكان المدفعي الذي يعتبره الملك من اتباعه المخلصين ، مقبولا ًمن جانب الكتلة القومية ومقبولا ً من العناصر المؤيدة ، لحكمت سليمان ، حتى ان ، حكمت ، كان قد سعى في الايام الاخيرة لاشراكه في وزارته كوزير للدفاع .
كان ، حكمت ، متحمسا ً لاسناد الوزارة الى (المدفعي)، دون غيره ، على اساس (( انه من الخير للبلاد والبلاط معا ً ان يكون رئيس الوزارة رجل حيادي مثل ، جميل المدفعي ، على ان يؤخذ عليه عهد بأتباع سياسة خاصة ، وهي ، اسدال الستار على الماضي بحسناته وسيئاته )) ويبدو انه رأى في ، المدفعي ، الرجل المناسب ، الذي يمكن معه اخفاء العديد من سيئات عهد ، بكر صدقي .
ادت الاحداث التي رافقت حكومة ، حكمت سليمان ، والنتائج التي تمخضت عن اغتيال ، بكر صدقي ، الى انتقال مركز الاستقطاب الوطني والقومي من السياسيين التقليديين الى الكتلة القومية في الجيش ، لمدة طويلة قادمة ، كما أدت هذه الاحداث الى خلق احقاد وعداوات شخصية ، وربما لم تقتصر هذه على اعضاء النخبة السياسية فحسب ، بل امتدت الى البلاط والملك نفسه ، اذ وضعت ، نوري السعيد ( لمقتل صهره جعفر ) في مواجهة ، حكمت سليمان ، وشحنت احقاد النخبة من زعماء الإخاء ، ومؤيديهم بسبب ما حدث لهم ولياسين الهاشمي ، هذه الاحقاد والعداوات الشخصية ، سمّمت العملية السياسية العراقية لسنوات لاحقة ، ولم يضع لها حدا ً حتى مقتل الملك غازي في سنة 1939 ، وما ارتبط به من نتائج ، وبخاصة ما تعلّق بالوصاية على الملك الصغير( فيصل الثاني ) والاحداث التي اعقبتها .
وضعت نهاية الانقلاب العسكري – انقلاب عام 1936 – خاتمة لحياة ، حكمت سليمان ، السياسية ، بعزله عن النخبة وحرمانه من أي منصب وزاري بقية حياته ، كما ان المعارضة الوطنية ، فقدت اثنين من اكثر زعماء البلاد شعبية ، وهما ، ياسين الهاشمي ، الذي توفي كمدا ً في المنفى في 21 / كانون الثاني من عام 1937 ، وجعفر ابو التمن ، بأعتزاله السياسة نهائيا ً وحتى وفاته في 20 تشرين الثاني من عام 1945 ، كما برزت ، في الاقل ، ثلاثة قضايا متميزة ، بعد نهاية حكم الانقلاب ، الاولى ، تعاظم دور المؤسسة العسكرية في الشؤون السياسية ، وفشل ، السياسيين في وضع الجيش تحت السيطرة المدنية ، بل ظل الجيش يمارس دوره في السياسة خلف الستارة اولا ً، ثم أخذ يزحف نحو السلطة ثانيا ً، بتشجيع من النخبة ، التي لم تخلُ ادعاءاتها من مطامع شخصية ، بعد استمرار تأكل النظام الدستوري الذي انشأه الانكليز ، والثانية ، تصاعد توجهات النخبة السياسية للنظام ، وبخاصة ، نوري السعيد ، نحو الصراع من اجل السلطة ، مقابل اهمال المسائل الاجتماعية الضاغطة ، وبقاء الممارسات السياسية على اساليبها التقليدية ، في ظروف بروز تهديدات خارجية جديدة مع مستهل الحرب العالمية الثانية ، والقضية الثالثة ، هي عودة المشكلة الفلسطينية الى الظهور بشكل اقوى ، وما افرزتها من تزايد العداء الوطني ضد الانكليز ، ومهما يكن من أمر ، فأن الانقلاب العسكري في عام 1936 الذي نسج خيوطه ، حكمت سليمان ، بالتعاون مع ، بكر صدقي ، اصبح انموذجاً للعديد من الانقلابات العسكرية التي تلته ، سواءً من حيث ، التنظيم ، او المجرى ، الذي سارت فيه ، كذلك ، تطابقت النهايات التي انتهت اليها الدكتاتورية العسكرية ، أي الاطاحة بها بواسطة فريق آخر من الضباط .
عن رسالة: حكمت سليمان ودوره في السياسة العراقية