من تاريخ الاستقالات في تاريخ العراق الحديث..انتفاضة تشرين الثاني 1952 واستقالة وزارة العمري

Sunday 1st of December 2019 07:23:12 PM ,

ذاكرة عراقية ,

فاطمة عدنان شهاب الدين
امتدت المظاهرات في انتفاضة تشرين الثاني 1952 الى مناطق بغداد جميعا وبعض مدن العراق مثل كربلاء ، والحلة ، والنجف ، والديوانية فالناصرية والبصرة فقد كان في هذه المدن اعضاء بارزون في الحزبين السياسيين المعروفين حزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطية يستغلون تلك الاحوال ، وينفخون في تلك الجذوة كي يزيدوها خرماً.

فقدت الاحزاب السياسية السيطرة على المتظاهرين وضعف افراد الشرطة امامهم . استأنفات المظاهرات في غالبية مناطق بغداد اذ شملت شارع الرشيد والكفاح والفضل والكرخ والميدان والباب الشرقي وباب المعظم ورفع المتظاهرون شعارات ضد الحكومة والمستعمرين البريطانين وطالبوا باستقالة الحكومة ويرددون شعارات بسقوط حكومة مصطفى العمري وسقوط الوصي عبد الاله الذي وصفوه بالخائن.
لقد كان الهياج في انتفاضة تشرين الثاني 1952 معبراً عن الوضع السياسي في العراق حيث كانت الطبقات المثقفة والفقيرة في المدن في حالة ثورة ضد الحكومة والنفوذ الاجنبي ، ولم تتمكن الشرطة من اعادة النظام في تلك الساعات ادرك الوصي ان زمام الامر قد فلت من يد الحكومة فاراد ان يعيد اليها اعتبارها وكلف حكمة سليمان بان يؤلف وزارة يختار اعضاءها بملئ حريته ولكن حكمة سليمان رفض التكليف لاعتقاده بان الوصي لا يكف عن التدخل بشؤون الوزارة.
فاستدعى الوصي جميل المدفعي وعهد اليه بتأليف الوزارة وما كادت الجماهير تسمع بذلك وتعرف ان المدفعي كلف بتأليف الوزارة الا وبدأت تهتف بسقوطه. واستدعي بعض السياسين الى البلاط لاستشارتهم حول الوضع منهم محمد مهدي كبة رئيس حزب الاستقلال ، فقال كبة "ان العلاج هو النزول عند ارادة الشعب وتلبية مطالبه".
ثم سئل عن التعاون مع المدفعي فاجاب بان هذا يتوقف على ما ستقوم الوزارة من تحقيق مطالب الشعب وفي مقدمتها اصدار مرسوم بتعديل قانون الانتخاب وجعله على درجة واحدة والقيام باجراء الانتخاب على اساس القانون المعدل ، وسئل عما اذا الف المدفعي وزارته ووعد بانجاز هذه المطالب فهل سيكف التظاهر ويستتب الامن والهدوء والاستقرار ؟ فلم يؤكد كبة ذلك لعلمه ان الرأي العام لم يعد يثق بالطبقة الحاكمة وحسن نواياها.والواقع ان المدفعي اخفق في تأليف الوزارة لان النقمة كانت منصبه على ما سمي بساسة المدرسة القديمة.
بعد اخفاق المدفعي بتأليف الوزارة اتصل الوصي عبد الاله بالفريق الركن صالح صائب الجبوري رئيس اركان الجيش السابق لتأليف الوزارة الا انه رفض ايضاً ان يشرك نفسه بالحياة السياسية.
واثثناء هذه الاتصالات لتأليف الوزارة بلغت المظاهرات اوجها في بغداد وبعض المدن العراقية ولم تتمكن الشرطة من اعادة الامن والنظام ، لذلك دعي الجيش للتدخل بأوامر عدم اطلاق النار ولكن نور الدين محمود رئيس اركان الجيش اخبر الوصي بأن النظام لا يستعاد ما لم يسمح للجيش باطلاق النار ، لذلك استدعي الوصي رئيس الوزراء مصطفى العمري ووزير الداخلية ووكيل وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش ومتصرف لواء بغداد لبحث الموقف وظهرت معضلة قانونية حول من يملك الصلاحية لاعطاء الامر الى الجيش باطلاق النار على المتظاهرين ، فمتصرف لواء بغداد او حسب قانون اللواء لا يستطيع اعطاء هذا الامر لوجود الاعلى منه هو وزير الداخلية .
كما بين وزير الداخلية ووكيل وزير الدفاع انه لا يستطيع اصدار مثل هذا الامر بدون اذن من قبل رئيس الوزراء او مجلس الوزراء . وذكر الوصي بانه راغب باصدار الامر الى رئيس اركان الجيش ولكنه ذكر انه شرعياً لا يستطيع ذلك بصورة مباشرة كل هذه الصعوبات القانونية كانت قد ظهرت بينما كان نور الدين محمود رئيس اركان الجيش منتظراً الامر للعمل.
غير انًّ تطور الاحداث وتقديم مصطفى العمري استقالته بعد ان عد الاتصالات التي اجراها الوصي ببعض الشخصيات السياسية بدون علم منه لتأليف الوزارة جاءت طعنة للثقة التي منحت له .
كما شعر ان بقائه بالسلطة سيؤدي به الى ان يتحمل المسؤولية لوحده اضافة لرفضه منطق استخدام السلاح ضد المتظاهرين كما اعتبرها فرصة للتخلي من المسؤولية التي بدأ خطرها يتصاعد فقدم استقالته.ذكر الحسني في كتابه تاريخ الوزارات بعد ان اتخذ العمري قراره بالاستقالة . "تجمع وزارءه وعرض عليهم فكرته وكان من رأي فريق منهم الاستقالة ومن رأي فريق اخر البقاء واتخاذ كل ما يقتضي من اجراءات قانونية للمحافظة على الامن والنظام" .
وفيما يلي كتاب استقالة الوزارة .
سيدي صاحب السمو الملكي العظيم :
اني لما تشرفت بثقة سموكم الغالية بتأليف الوزارة ، كانت خطتي ان تجري الانتخابات وفق القوانين المرعية ، في جو مشبع بالصفاء ، مع التزام الوزارة بالحياد التام . غير ان الظروف الخارجية والداخلية خلال هذه الفترة قد تغيرت ، وان بعض العناصر السياسية في العراق قد استغلت الوضع فاخرجته عن حالته الاعتيادية ، ولما كنت راغباً منذ تأليف الوزارة في ان اتجنب الاجراءات القاسية التي يتطلبها الوضع غير الاعتيادي ، فاني استرحم ان تقبلوا اعفائي من المسؤولية ، شاكراً لسموكم الايادي البيضاء التي اسديتموها علي ، واني ما زلت يا سيدي تحت تصرف سموكم لي الشرف بان اكون خادم سموكم المطيع المخلص" .
21 تشرين الثاني 1952
مصطفى العمري.
ان تطور الاحداث حثت الوصي لدعوة نور الدين محمود لتأليف الوزارة بالرغم من ان الوصي كان حذراً خلال السنوات العشر الماضية من الجيش وحاول ابعاده عن السياسة منذ احداث 1941 لكنه في تلك اللحظة الخطيرة اصبح مقتنعاً اكثر من أي وقت مضى بان تكليفه لاحد قادة الجيش المخلصين للعائلة الهاشمية اصبح امراً لا مفر منه وهو الحل الامثل لحماية العرش من التهديد الذي بان يشكله خطر الاضطرابات وفي الساعة الخامسة مساء يوم 23 تشرين الثاني عام 1952 تقرر تكليف نور الدين محمود الذي لم يبدي هو الاخر اعتراضه.
فقبل الوصي استقالة مصطفى العمري بهذا الكتاب:
عزيزي السيد مصطفى العمري :
اخذت كتاب استقالتكم المؤرخ في 21 تشرين الثاني 1952 او في الوقت الذي اعرب لفخامتكم عن أسفي لتخليكم عن منصب رئاسة الوزراء لا بدلي من اظهار تقديري للجهود التي بذلتموها انتم وزملائكم مدة ممارستكم الحكم.
صدرت من بلاطنا الملكي في اليوم الثالث والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 1952 ميلادية ، الموافق الرابع من شهر ربيع الاول من سنة 1372 هجرية .
عبد الاله.
وفي نفس اليوم الف نور الدين محمود الوزارة .
عن رسالة: نور الدين محمود ودوره العسكري والسياسي