عبر كتابين.. محمد خضير يخرج من عزلته الذهبية

Wednesday 25th of December 2019 06:45:32 PM ,

عراقيون ,

علي عبدالأمير
يختار محمد خضير طريقة أخرى في اصدار كتابا. بل تكاد تختلف عن التي يفضلها. فهو يبعث باشاراته الاتصالية – كتابه – من مكان يبدو قصيا في ابتعاده عنه. هو الذي عرف عنه مثابرته وتأكيده على فكرة (المواطن الابدي). وحرصه على الانتظام في حياة مكانه (البصرة ) دافعا بفكرة الانتماء المكاني من ملاحظات واقعية الى أخرى أسطورية نجدها حتى في التسمية فتنسحب المبصرة لتصبه «بصرياثا".

مكان ومصائر وعوالم تنقذف من الماضي الى الراهن ومن الماضي أحيانا الى المستقبل.
هذا الانقذاف وتقاطع المصائر، غالبا ما يتم بأجل القطيعة مع الراهن. الراهن الذي أحال المكان الى علامات رعب, ثمة الحرب وثمة نتائجها: " فالمدينة ذاتها تغص بالحشود الوافدة اليها من المدن الأخرى، جنودا وصحفيين ومراسلين ورجالا يقتفون أثار أبنائهم المتوجهين الى الجبهة امتلأت بهم الشوارع والساحات والفنادق وخيام الطريق. بل إن هذه القطيعة مع الراهن والانتقالات الماهرة كلعب على الأفكار والصور والتشخيص الواقعي – التاريخي، يضعه محمد خضير في شبه تمهيد سبق كتابه "رؤيا خريف ". الصادر عن دار أزمنة – الياس فركوح – عمان 1995وبدعم من مؤسسة عبدالحميد شومان فيقول: "وهل من موضوع, كالحرب, يتقدم بالمحال على الممكن ويسوغ الشطوح الرمزي مالا للحقيقة المقيدة, ويسبق المطلق المجرد فيه الملموس المقرب ؟ أو ليست الفواجع جهة للفراديس ؟ فالمدن المحاصرة تلفظ أهلها وتزحف الى الصحراء، وتستجير بزمانها وترحل الى مبتدأها، والكتابة تنحرف عن سكتها وتطارد اشاراتها معناها، والمخيلة منكسرة. والمؤلف طريد، وحيد، محاصر، حيران, غريب.".
القصص هنا في مجموعة "رؤيا خريف " تتحدث عن الوقائع بوصفها رؤى. هناك دائما رؤى، لا أحداث, ومن هذه الرؤى يمكن للكاتب أن يعيد تشكيل مدياته كما يريد من دون أن يقطع عنها محمولاتها واشاراتها الواقعية فتبدو وكأنها تخفق بجنان الفن وترحل الى آفاقه الخلاقة, في الوقت ذاته فهي تأخذ من الواقع بؤرا تشغل تلك الرؤى وتدفع بها. الشخوص والأفكار والنسيج كله يبدو في القصص وكأنه يطلع من (ميثولوجيات ) المكان, ثم تمضي الحكاية وبكل ازمانها الى منطقة متخيلة, منطقة تعيد بناء ما تهدم وتحيل واقعها المدمى والمتشظي الى نوع من المأثورات التي لابد من إقامة علامات لها في المدينة, أبراج, عمارات, شكل جديد للمدينة ومن خلالها يمكن قراءة تاريخ الوقائع المرعبة التي تجسدت على أرضها. الكاتب هنا مسكون بيقين المكان وتحوله الى نقطة ارتكاز جديدة للمعرفة, للمعالم:لحضارية, للحكمة, بل ان المعالم المتغيرة دائما يختارها وهي تطابق ذلك اليقين. يقين خروج المكان من شظفه وبؤس علاماته الى الاندراج الطبيعي في البناء وتقويم الأثر واصلاح ما تهدم. محمد خضير يحيل, الرموز التاريخي والأحداث الماضوية الى علامات ذهنية وبسلامة نجدها تتلاقى مع إشارات واقعية تحولت هي أيضا الى علامات ذهنية, وبطريقة الرسم المتأني نجدها تتحلق في معطى جديد، وكأنه يرسم للمكان ميثولوجياا الشخصية, "أتراحاسيس, سنخاريب, الجاحظ, بديع الزمان, الحريري، بدر شاكر السياب, جيكور، ساحة أم البروم, جندي جريح وشاعر في الحرب, حانة الوردة البيضاء"، ثم فندق "الحكماء الثلاثة »، المكان الذي نجده وقد أصبح ملتقى للمصائر هذا والأشخاص الذين ينقذفون الى المكان لتفحص علاماته المتناثرة, ويصبح بالامكان التعرف على عبارة رؤيا (شمش ): د،لتشرق شمسي على أرض الجنوب وليمتا قوس قزحي على البحر بوابة تعبر منه سفن العالم ". أو تلك العبارة التي يقولها (سن ) المنير والتي تكثف عبر اختيار الكاتب لها، فكرة توقه للعبور من الراهن صوب أوقات أقل رعبا واحتمالات للتطور الطبيعي وزيادة الفاعلية الانسانية: " لينقشع الغبار، وليتوقف المطر الدموي، ولتتدفق السيول الغزيرة فتغسل الأرض من الدماء والجثث وتجرف بقايا الأسلحة المحطمة. وليظهر السهل الأخضر يشقه نهر الحياة جاريا الى البحر البعيد".
هذه الإشارات عن قوة النسيج في واحدة من قصص محمد خضير، تأخذنا الى نوع من التشكل المعرفي العميق الذي يصبه الكاتب في قصصه. إنه يأخذنا الى نوع من المكابدة التي لولاها ما جاءت فكرته في القصة بهذه الدرجة من الاقناع, فهو ببراعة ودقة علمية يرسم لنا برجا في قصة " رؤيا البرج "، هو حاذق فيها كمهندس مجدد، ولولا براعته في البناء لما كأن مقنعا في رسم تلك المتاهات التي ينتظم فيها البرج كرؤيا وأسرار. كذلك الحال في قصته "حكايات يوسف " المبنية على جوهر إنساني بسيط يبدو مشعا وسط تلك الدهاليز والأسرار التي يحتويها مبنى جديد تشكل: "عندما اعدنا بناء المدينة, بعد الحرب ".
بينما في قصة «داما، دامي، داعو» نجد تلك القدرة على تحويل اللعبة الشائعة الى تراتب ذهني وفكري وقراءة عميقة لتصادم الأفكار. إنها قصة تقوم على فكرة البناء التركيبي فيما هذا البناء لا يصب في خدمة الشكل حسب, بل في حسن وقع المتن الحكائي لها. وهذه تتطلب معرفة بقوانين اللعبة وجاءت هنا مزدوجة, اللعبة الحقيقية ولعبة الكتابة أيضا التي ترق لغتها هنا عند محمد خضير، حتى عندما يذهب الى وصف تفصيلي كهذا: «لعبة الداما، سيدي، لعبة الأعمار القصيرة, سأبرهن أمامك امتداد المسافة في حدود الرقعة, وكيف أن مصيرنا لا يساوي مسعانا، وأن ازماننا أطول من أعمارنا، انتظر كلانا هذا اللقاء ليختبر صدق برهانه ويقارع البهتان, إن كنت مستعدا فضع كلمتك في مربعات الافتتاح كي أسمع قرقعة أحجارك ".
ومثلما أشرنا الى قدرة التشكل الفائقة للمعا رف والأفكار في قصص محمد خضير المنوه عنها، نجدها مرة أخرى تتكثف في قصة "أطياف الغسق ". فهو هنا يحدثنا بوصف العارف والمدقق لمفاهيم الفيزياء الحديثة ~ البصريات بخاصة – كذلك برامجيات وتقنيات الحاسبات وقدرتها على اختزال المعلوات وتنظيمها. فهو يأخذنا الى مزاوجة بين هذا العالم التقني – إذ يتحقق ؤ سدينته المتخيلة – وبين عوالم (فطرية ) تتمثل في وجود الحفيد الرابع للنحات الفطري العراقي منعم فرات !، وينشغل هذا الحفيد بمهمة تشكيل أطياف الفسق عبر المعاونة التقنية في تجسيد رمز حي ومؤثر للمدينة يقام على أطرافها. في متن النص القصصي نجد كشفا لواحد من المعالم العراقية الفياضة, إذ نقرأ هنا في روح وخيالات وسيرة منعم فرات, ونقرأ في ميثولوجيا وقته الذي انفصل عنه ليعبر عنه بما عنده من روح. خروج المدينة من رعبها. شيمة تكتمل مع توالي النصوص, ففي قصة آخر الكتاب نقرأ: "اكتمل بناء المدينة, وحق لها أن ترتبط باسم تعرف به بين المدن المحيطة التي تفتت وحالت ,JI خر ائب وتلال وأعمدة مائلة ". ومع هذا البناء ثمة المرقاب, مثلما ورد البرج، ثمة طابق المرقاب مثل مفاتيح الحاسوب في قصة أخرى ثمة الشاشة. وهذا كله توق الى مستقبل سيأتي، ولكن ليس عن طريقة بديهية التطلع البسيط, بل ثمة تساؤلات فيها من تلاقح الأفكار وتصادمها ما يقلق البديهية ويجعلها أشبه بلغز ذهني وممر الى اكتشاف المعرفة وهذه تتجمع في كتاب فريد حمل عنوان (كتاب التساؤلات ) ويحفظ في (دار المحفوظات ) الذي يعمل فيه الراوي.
"قصص هذا الكتاب, متضامنة, رؤيا واحدة, متكافلة في البراهين التي تجليها. متكافئة في النتائج ولم تكن لتبدو كذلك حين نشرتها متفرقة. إذ أخذتها الظنون على انها أقباس مشتتة, ترتضع من منابع بعيدة وهاهي ذي تجتحه وتتراص. تعرضها البراهين المتكافلة, رؤيا تتغذى من مراضع موضوع واحد، موطنه (بصرياثا) وزمانه زمانها، زمان حربها وسلامها".
ثانيا "الحكاية الجديدة "
سيرة نظرية تنساب في مجرى مجاور القصص.
في العنوان الثانوي الذي وضعه الناشر على غلاف كتاب محمد خضير "الحكاية الجديدة "، تم ترحيل جنس الكتاب الى النقد فقد وضعت عبارة – نقد أدبي – بينما هو ليس كذلك تماما، فالكتاب هو مجموعة محاضرات سبق لمحمد خضير أن قدمها لجمهور من الأدباء والطلبة, أنها محاضرات تمت إعادة صياغتها في الكتاب لتغدو مقالات: "وما زالت هذه المقالات تحتفظ بذلك الطابع التجريبي المنفرد، فلم تدخل في حساب النقد الأدبي ومنهجيته, ولا في مداخل النظرية الأدبية ومصادرها، الا بما سمح المدخل المشترك بين التجربة الخاصة والمبدأ العام".
هي مجموعة من النتائج الشخصية التي توصل اليها الكاتب في بحث مطول حول الحكاية, أسرارها تفاصيلها عناصر تكونها وكذلك تأريخيتها ووظيفتها أيضا. ومن ثم فهي براهين بسيطة في اشكال القص يحدو الكاتب الأمل في تثبيتها مثلما فعل من قبل ألان روب غرييه في (نحو رواية جديدة )، وميشيل بوتور في (بحرث في الرواية الجديدة )، وأمبرتوإيكو في (العمل المفتوح).
الكتاب تضمن عدة فصول تتضمن رؤى الكاتب في الحكاية ومقترباتها في النص القصصي، وأغلبها كانت تتمحور حول سؤال نشط وذكي وجوهري: "أي دافع هائل خلف أو أمام هذه الرحلة الطويلة ؟ لماذا هذا الانتزاع الرمزي والتحليق فوق الطبيعي، وفوق الواقعي على عالم البشر؟
ما من إجابة كاملة ما دامت الرحلة مستمرة."