تأملات بصدد «البطولة»

Tuesday 21st of January 2020 08:05:33 PM ,

منارات ,

د. حسن مدن
ما من أحد يولد بطلاً، أو يكون منذوراً للبطولة منذ ولادته. البطولة، إن تمت، تتم لاحقاً عندما ينجز الشخص المعني دوراً بطولياً، ولا يوجد إنسان يعلم أنه مشروع بطل إلا عندما يوضع على محك الاختبار، فتفاجئه نفسه قبل أن يفاجئ هو الآخرين بأنه قادر على أن يصبح بطلاً، وهو أمر قد لا يكون قد فكر به، أو حلم أن يكونه ذات يوم، ناهيك عن أن يكون قد سعى إليه.

بالمقابل، هناك كثيرون يرغبون أو يسعون لأن يكونوا أبطالاً، لكنهم سرعان ما يكتشفون عند اختبارات الحياة القاسية أنهم ليسوا أهلاً لذلك الدور، فتخور قواهم وتنهدّ عزيمتهم عند أول منعطف قاسٍ من منعطفات الحياة يفرض عليهم اختبار ما يطمحون إليه من أدوار البطولة.
الكاتب التشيكي يوليوس فوتشيك، في كتابه «تحت أعواد المشنقة» عقد مقارنة بين سلوك أحد المناهضين للنازية، الذي وجده يتفانى في القتال على متاريس القتال، كما يليق بمقاتل شجاع مؤمن بعدالة القضية التي ينافح عنها، وكان، ساعتها، مشروع شهيد، وهو يعلم ذلك علم اليقين؛ لكنه لم يتردد أو يجبن، وبين سلوك هذا المناضل نفسه عندما ألقي القبض عليه، ومارس رجال «الجستابو» عليه أبشع صنوف التعذيب، فخارت قواه، وأدلى بما كان معذبوه يريدونه منه من معلومات.
كان فوتشيك في مقارنته بين سلوك الرجل نفسه في الحالين، بصدد مسألة أخلاقية بشحنة إنسانية عميقة، فالرجل كان بطلاً بالفعل على متاريس القتال، وكان مصمماً على مواصلة القتال ومستعداً للشهادة، فهل كفّ عن أن يكون بطلاً حين انهار تحت سياط الجلادين؟ أو يمكن أن نذهب بالسؤال إلى أقسى الافتراضات: هل أصبح البطل السابق خائناً حين لم يسعفه جسده على تحمل المزيد من التعذيب، فأدلى بمعلومات تلحق الضرر بقضيته وتوقع برفاق آخرين له؟
قدّم الكاتب تفسيراً عميقاً لاختلاف سلوك الرجل في الحالين، لعله يندرج في باب التحليل النفسي أكثر مما هو في باب التأويل السياسي المباشر الذي ينزع لتقسيم الناس إزاء مثل هذه الاختبارات إلى أبطال ومنهزمين، فالرجل أظهر من الشجاعة ما أظهر وهو يقاتل؛ لأنه كان محاطاً برفاقه المقاتلين الآخرين على المتراس نفسه، وكانوا جميعاً يستمدون العزيمة من بعضهم بعضاً؛ لكنه في الزنزانة وجد نفسه وحيداً مجرداً من أي دعم أمام جلاديه القساة، فانهارت عزيمته.
صحيح أن هناك بشراً مستعدين لأن يحملوا أرواحهم على أكفهم، ويضحوا بها دون تردد في سبيل ما يؤمنون به من مثل أو أفكار، لكن تظل البطولة أدواراً تتضافر في صنعها الظروف، وليست جينات في البشر جبلوا عليها.