الفلسفة لعامّة الناس.. عن القيمة اليومية للفلسفة

Tuesday 4th of February 2020 08:01:21 PM ,

منارات ,

لطفية الدليمي
يتناول برتراند راسل في واحدة من مقالاته المنشورة عام 1946 السؤال الجوهري عن أهمية الفلسفة و التساؤلات الفلسفية و ينتهي بنتيجة تناوله إلى وجهين متلازمين لأهمية الفلسفة في حياتنا : أهمية كونية وأخرى يومية مع التأكيد على الاشتباك المحكم للاهتمام الكوني مع اليومي في تركيبة واحدة ،

ولست أغالي إذا قلت أن أهمية الفلسفة كقيمة يومية في حياتنا - نحن الشعوب المبتلاة بتسلّط الأفكار الطغيانية السياسية والدينية - تتعدى أهميتها الكونية بالنسبة إلى شعوب العالم السباقة في التحضّر والارتقاء بسبب أن الفلسفة قرينة الشك والبحث و الاستقصاء المستديم وعدم الركون إلى المواضعات الجاهزة والمريحة للعقول الراكدة والتي توفرها النظم الدينية والسياسية ذات الطبيعة الشمولية القامعة.
هذه ترجمة لمقالة ثانية كتبتها ( كلير كارليسل ) ونشرتها في صحيفة ( الغارديان ) البريطانية في 6 كانون الثاني 2014 في سلسلة مقالاتها عن جوانب من فكر الفيلسوف البريطاني الأشهر برتراند راسل .
ثمّة شعور طاغِ ينتاب مدرّسي الفلسفة ومريديها اليوم يرى أن الفلسفة قد أضحت في مرمى نار التهديد لا بسبب نقص برامج التمويل الخاصة بدراستها وحسب بل بسبب الانزياح الثقافي المتعاظم والذي بات يحسب القيمة تبعاً لمفردات البراغماتية والعوائد المالية المترتّبة عليها . ولكننا - نحن رهط الفلاسفة ومحبّيها – إذا ما حاولنا الدفاع عن الفلسفة بكونها اشتغالاً معرفياً عظيم الأهمية فإن مساءلة عظمة الفلسفة غالباً ما تشتبك مع مسألة أهميتنا نحن !! .
لنكن اكثر وضوحاً ودقّة : قد يحصل تصوّر ما أننا عندما نحاجج في أهمية الفلسفة يبدو الأمر أحياناً وكأننا ندافع عن وظائفنا ومصادر دخلنا التي تكفل لنا حياة جيدة ، وهنا يبدو الامر باعثاً على السخرية حقاً فلطالما رأى الفلاسفة في أنفسهم مفكّرين يبتغون الموضوعية الأسمى في كل الموضوعات التي يتناولونها ، وانا لست هنا في معرض أن أقول أو أقترح شيئاً من قبيل أن الفلاسفة ينبغي لهم أن يكفّوا عن توكيد موضوعة قيمة الفلسفة أو تقليل شأن زهوهم بما يحوزونه من ذخيرة معرفية شاملة في مقاربة تأريخ الأفكار والشخصيات الفلسفية ، بل أقول أن كوننا فلاسفة نبتغي وجهة الموضوعية في كل ما نعتقد هو سبب كاف ومعقول لكي نستمع إلى ما يقوله الفيلسوف البريطاني برتراند راسل بخصوص موضوعة أهمية الفلسفة .
لم يكن راسل فيلسوفاً وحسب بل كان أكثر من فيلسوف : فقد كان عالم رياضيات ، وداعية سلام ، ومعلّماً ، وعارضاً للأفكار العلمية الحديثة لعامة الناس ، وناقداً ثقافياً وأدبياً ، ومن المؤكد أن هذا الطيف الواسع من الاشتغالات يمنحه القدرة للتعليق على أهمية الفلسفة و بخاصة إذا ما علمنا انه كان يميل كثيراً إلى تأكيد علاقة الفلسفة مع كل أنماط التساؤلات والاشتغالات المعرفية الأخرى . وقد أبان راسل ذاته في غير موضع أنه كان لصيقاً بالحقيقة ومكرساً كل حياته في السعي الدؤوب نحوها حتى في تلك الظروف التي تسبّب فيها سعيه هذا في إرباك حياته المهنية المريحة أو اضطراره لمراجعة أفكاره التي كان يعتقد بها في فترات مبكرة من حياته .
يناقش راسل في مقالة نشرها عام 1946 بعنوان ( الفلسفة لعامّة الناس Philosophy for Laymen ) طبيعة الفلسفة وأهميتها و الغرض المرجوّ من ورائها ، ويسرد راسل قائمة من التساؤلات التي تنتمي لفضاء الاشتغال الفلسفي : هل يمكننا ان نغالب الموت ؟ وهل يمكن للعقل ان تكون له الغلبة على المادة أم ان العكس هو ما يحصل أم ان كلاً منهما يعمل في إطار استقلالية محدودة ؟ وهل ثمة من غرض ما في الكون أم أنه يدار من طرف الضرورة العمياء ؟ وهل أن ما نظنّه فوضى شاملة في القوانين الفيزيائية الحاكمة للظواهر الطبيعية هو محض فنتازيا تعكس تعلّقنا المهووس بالنظام الذي نبتغيه في الطبيعة ؟ وهل ثمة من مخطط كوني ما ينظم حياتنا ؟ . إن من المثير للغاية ان نرى راسل في مقالته هذه يضع في بؤرة الاهتمام الأسئلة الكونية للفلسفة والتي قد يظنّها الكثيرون محض انشغالات دينية وحسب ، ومع أن راسل يؤكّد موقف الفلسفة غير القادر على اجتراح إجابات مقبولة وحاسمة لهكذا طائفة من الأسئلة لكنه يمضي في القول " إن الحياة البشرية سيطولها فقر شديد لو أن هذه الأسئلة وامثالها تم تجاهلها ، أو ان إجابات مبتسرة لها قد قبلت من غير أسانيد كافية " ، وهنا يشير راسل إلى أن واحداً من أهم أغراض الفلسفة هو ان تديم شعلة الاهتمام بهكذا أسئلة كونية وأن تمحّص في أية إجابة متوقّعة لها . يعيد راسل في جانب آخر من مقالته التوهّج إلى الفكرة الراسخة في القدم والقائلة ان الفلسفة هي طريقة حياة تؤكّد على موضوعات المعنى والقيمة الكونيتين وترى في هاتين الموضوعتين أسبقية وجودية وأخلاقية وروحية ، ويعيد راسل تذكيرنا بأن سقراط يجادل في جمهوريته أن سعي الفلاسفة وراء الحقيقة يستلزم إعادة توجيه الروح باتجاه كل ما هو خيّر وما يترتب على هذا التوجه من ممكنات للفعل ، ويطوّر أرسطو من جانب آخر مفهوم أخلاقيات الفضيلة Virtue Ethics التي ترينا كيف يمكن لصفاتنا ان تتشكّل تبعاً لما هو خيّر لنا ولسعادتنا ككائنات بشرية ، وهنا يشير راسل إلى التمايز الحاسم بين المقاربتين الفلسفية والدينية للحياة الخيّرة : الفلسفة ترفض أية وصاية لسلطة تأسّست على تقاليد راسخة أو كتاب مقدّس ، وأن الفيلسوف لا ينبغي له أن يقيم كنيسة ليتعبّد فيها مريدو الفلسفة وعشّاقها !! .
يرى راسل بوضوح صارم أن النزعة الشمولية Authoritarianism تمثل جوهر الأساس الذي يتأسّس عليه أي دين ، ويؤكّد أن فلسفته ستعدّ مضادة للرؤية الدينية بالقياس إلى هذه المرجعية لأنه يرى أن الشك المؤسّس على مرجعيات أخلاقية هو في القلب من كل فلسفة ترمي لان تكون فلسفة ترتقي بنوعية حياة الفرد التي يرى راسل أن الفلسفة ينبغي ان تقودها إلى السلام والصفاء الداخلي وهو الامر الذي سيقود في النتيجة إلى السلام في كل العالم ، وهنا يكتب راسل "الدوغمائية عدوّة السلام وحاجز عصيّ الاختراق أمام الديمقراطية " ، ويضيف قائلاً " إن قدراً ضئيلاً من التدريب والمران الفلسفي سيعلّمنا كيف أن الغباوة المتعطشة للدماء يوعظ بها كل آن تحت ستار تحقيق المصالح القومية والعقلانية والطائفية ، والأغرب من كل هذا ، الديمقراطية " ، و يشير راسل في موضع من مقالته إلى واحدة من أجمل كشوفاته الفلسفية عندما يكتب " أن نتحمّل التعامل في إطار من عدم اليقين فذاك أمر شاق للغاية ، ولكن تحمّل مشاق امتلاك بقية الفضائل هو بذات القدر من الصعوبة لأن تعلّم كل فضيلة لا بد ان يترافق مع قدر غير قليل من الإنضباط والصرامة ".