اول شرقي يزور امريكا كان موصلياً..رحلة الياس الموصلي الى العالم الجديد سنة 1668

Sunday 9th of February 2020 07:02:24 PM ,

ذاكرة عراقية ,

انطون رباط اليسوعي
الشرقيُّون مغرمون بالأسفار، أمر يشهد به التاريخ القديم والحديث، وتثبتهُ الرحلات العديدة التي ألَّفوها، واصفين بلادًا تكاد أن تكون مجهولة حتَّى في أيامنا؛ لكننا لم نكن نعرف أن أحدًا منهم ساح منذ قرنين ونَيِّف في أكثر البلاد الأمركيَّة وزار مدنها وولاتها وشعبها وتفقد أحوالها، ولم نعثر قَطُّ في المكاتب على ما يُستشف منهُ ذكر سياحة كهذه.

ففي أواسط أيَّار من سنة ١٩٠٥ بينما كنَّا نطالع المخطوطات المحفوظة في مطرانية السريان بحلب، استلفت نظرنا كتابٌ عربي عنوانهُ «سياحة الخوري إلياس الموصلي»، فاختلسنا أُوَيْقات الفراغ لقراءتهِ، وأخذَنا العجَبُ لمَّا رأَينا كاهنًا شرقيًّا قد زار أكثر الأنحاء الأمركيَّة في القسم الثاني من القرن السابع عشر، ووصفها وصفًا لا يخلو من اللذَّة؛ فعوَّلنا على تعريف الكتاب ونشر أهم فصوله. ولما عرضنا فكرنا على سيادة الحبر الجليل العلَّامة ديونيسيوس إفرام نقاشه مطران السريان الكاثوليك في الشهباء، أذن لنا باستنساخه ونشره، وكان قبولُه لطلبنا شاهدًا لنا جديدًا على ما ازدان بهِ من لطف الشمائل، وكرم الطباع الذكيَّة. وأثنى على هِمَّتنا كما اعتاد الثناء على كل عمل يئول إلى تعريف الشرق المسيحي ونشر تاريخِه. فليتنازل سيادتهُ ويتقبَّل خالصَ شكرنا.تعريف السائح: هو الخوري إلياس ابن القسيس حنَّا الموصلي الكلداني، من عائلة بيت عمون. ولقد نظرنا في الكتب المطبوعة والمخطوطة التي بين أيدينا فلم نصل حتَّى الآن إلى زيادة تعريف، وليس في رحلتهِ ما يُنْبِئُنا بشيء عنهُ خلا أنهُ ذَكَرَ ابن أخ لهُ اسمهُ يونان، أنجز في سنة ١٦٧٠ دروسهُ في عاصمة الْكَثْلَكَة، ومنها رجع إلى حلب.
الرحلة: في سنة ١٦٦٨ سافر الخوري إلياس الموصلي من بغداد لزيارة القدس الشريف، وبعد أن قضى مدَّة في حلب أبحر من إسكندرونة إلى البندقيَّة وإيطالية وفرنسة وإسبانية والبرتغال وجزيرة صقليَّة، ثم عاد إلى إسبانية وركب البحر من قادس إلى أمركة، فمرَّ على جزائر كناري ووصل إلى قرطجنة في أمركة الجنوبية، ثم ساح في جهات باناما ومنها تتبَّع المدن والقرى والمناجم غربي أمركة الجنوبيَّة، فزار البلاد التي تدعى الآن كولومبية وخط الاستواء والبيرو وبوليفية إلى أعالي بلاد الحكومة الفضَّية وشيلي، ومن هذه البلاد عاد على الأعقاب إلى ليما من أعمال البيرو سنة ١٦٨٠، وهناك كتب القسم الأوَّل من رحلته. وما لبث أن سار إلى البلاد التي يسميها ينكي دنيا أي المكسيك وأمركة المتوسطة، وبعد مدَّة قضاها في مكسيكو قفل راجعًا فركب البحر وعاد إلى إسبانية فرومية، وتشرف بمقابلة الحبر الأعظم. قال في ختام رحلتهِ: «فأنعم عليَّ البابا أينوسنسيوس الحادي عشر صاحب الذكر الصالح بوظائف لم أكن أهلًا لها، والحمد لله إلى الأبد، آمين.» ولم يذكر سبب رحلتهِ جليًّا لكنهُ يُستشف من غضون كلامه أنهُ ذهب ليجمع حسنات المسيحيين لفائدة أهل جِلْدَتِه، والله أعلم.صفات السائح: هو كاهن كلداني كاثوليكي ذو إيمان بسيط وتقوى صادقة، قليل الإلمام بالإنشاء والكتابة، لكنهُ يكتب ما يراهُ ببساطة ودقة وصدق، وقد تتبعنا سَفْرتهُ على خارطة كبيرة؛ فرأيناهُ لم يغفل بلدة ولم تَخُنْهُ ذاكرتهُ إلا نادرًا، لكن إنشاءه ركيك ووصفهُ خالٍ من التفنن، خلا بعض فصول وشذرات، ومع ذلك فقد قرأناهُ بلذَّة لما يذكر من الأمور الغريبة والتنقلات من مكان إلى مكان، ومن حال إلى حال. وفي كتابه أغلاط نحويَّة كثيرة أصلحنا أهمهَّا تاركين له سذاجة تراكيبه. ولا تخلو مطالعتهُ من فائدة يلتذ بها السوريون المقيمون في البلاد التي زارها، أعني وصف ما كانت عليه تلك البلاد ومقابلتها بما صارت إليه الآن بفضل التمدُّن والدين، وكلٌّ يعلم أن الشعوب التي كانت في أدنى درجات الهمجيَّة أصبحت بفضل المرسلين في أعالي سُلَّم الحضارة. وهناك فائدة أخرى للأمركيين أنفسهم؛ فإنَّ الرحلات وإن لم تندر لكنها مع ذلك لا تشفي الغليل. وقد قابلنا بين رحلتِه ورِحَل بعض معاصريهِ فوجدنا رحلتهُ أهلًا لأن تُنْظَم في مَصافِّها.وصف الكتاب: هو كتاب مخطوط مجلد تجليدًا قديمًا، طول الوجه ٢١ سنتيمترًا في ١٥س عرضًا وفي كل وجه ٢١ سطرًا. وهو مكتوب بخط جَلِيٍّ غير متقَن يحتوي ٢٦٩ صفحة؛ فمن ١ إلى ١٠٠ رحلة المؤلف، يليها إلى صفحة ٢١٤ سبعة عشر فصلًا نقل فيها الرحالة تاريخ افتتاح أمركة، وأخبار ولاتها وشعوبها، وليس في هذا القسم الثاني كبيرُ فائدة، وسنكتفي بنشر الرحلة ونقل بعض شذرات من هذا القسم الثاني. ومن صفحة ٢١٤ إلى الأخير رحلة سعيد باشا سفير الدولة العليَّة إلى فرنسة في سنة ١١٣٢ هجرَّية وهي رحلة معروفة باللغة التركية والإفرنسية، لم نجد ترجمتها العربية في غير هذا الكتاب، كما أننا لا نعرف للكتاب نسخة أخرى في مكاتب أوروبَّة.
مقدمة الرحلة عن: مجلة (المشرق) 15 ايلول 1905