محمد مهدي البصير..هل كانت بعثته العلمية سنة 1930 إبعادا سياسيا؟

Sunday 9th of February 2020 07:05:30 PM ,

ذاكرة عراقية ,

علي كاظم الكريعي
عين البصير سنة 1925م ، إستاذاً لاصول الفقه الجعفري في جامـــعة ((آل البيت)) ، لكنهُ طلب إعفاءه من هذا المنصب بعد مدة قصير. ثم عـــين أستاذاً للأدب العربي في الجامعة نفسها ، ومحاضراً في ثانوية بغداد المركزية،ودار المعلمين الأبتدائية في الموضوع نفسه .

لكن رئيس الوزراء نوري السعيد. الغى هذه الجامعة ، بحجة ضيق الميزانية العراقية عندها عقد البصير، العزم على ممارسة نشاطه السايسي من منبر آخر، فطلب البصير منحه إجازة لإصدار جريدة باسم " المبدأ " أراد لها أن تكون نواة لتجمع وطني حر، ينادي بالإستقلال ، لكنهُ عدل عن رأيه ، بسبب معارضة رئيس الوزارء نوري السعيد.

فقد إعتذر عن الموافقة على إصدارالجريدة المذكورة ، زاعماً أن البصير، لايستطيع النهوض بهذه المهمة.
ويبدو أن السبب الحقيقي من خلال قراءة الأحداث ، هو منع البصير، من ممارسة أي عمل سياسي وطني ، من شأنهُ أن يهيج الجماهير ، ويقلق راحة سلطات الإنتداب . ومن جراء ذلك حصلت القناعة لدى البصير، بعد أعوام من الكفاح السياسي الوطني المرير والشاق ، أن الوطنيين قلة في سوح النضال ، وان المناخ
السياسي السائد في العراق ، لا مكان فيه للنشاط العلني للوطنيين والقوميين المخلصين ، ولهذا قرر البصير، إعتزال العمل السياسي ، والتفرغ للعمل في ميدان آخر، هو ميدان العلم والتعليم.
وفي صيف سنة 1928م ، بعث الحزب الوطني العراق من جديد ، فكان البصير، عضواً في لجنته التأسيسية والتنفيذية كما كان من قبل
وتحدث البصير قائلاً :ـ
((وكنت من مؤسسيه ، وقررنا أن نحتفل بافتتاحه، فطلب اليّ الزملاء أن أسهم في هذه الحفلة ، فأخبرتهم بأمتناعي عن قول الشعر، منذ مواجهتي للمكلك فيصل ، فقالوا هذه حكاية قديمة ، وقد الزمت نفسك فيما لايلزم)) وأمام إصرارالأعضاء ، نظم محمد مهدي البصير، قصيدة بعنوان ((عهود أم قيود)) بتأريخ 27 أيلول سنة 1928م مطلعها :ـ
كم قطعنا باسم العراق عهوداً
لم تكـن فــي يــديــه إلا قيــوداً
لـم تحـدد معـنا المشـورة فيها
فهي من اجل ذا تجوز الحدوداً
شـغــلت مـركز الـقـيــادة مــنا اذ رضخنـــا لـهــا فكنـــا جنوداً
كم عملنا ما تشتهــى بـرضانا ثم قـــلنا : أتطلبيـــن المـزيــدا
شرح البصير، في هذه القصيده ، سياسة الحزب شرحاً وافياً ، ثم أشار فيها الى النفوذ البريطاني المتغلغل في كل أجهزة الدولة الإدارية والعسكرية ، والذي جاوز الحدود ، إذ بيده زمام الأمور، فهو يأمر وينهى ، وما على الوزراء إلا الطاعة والتنفيذ ، فهم مسخرون لتلبية كل رغباته ، وفي القصيدة ، ذم عنيف، ونقد لاذع للحكومة العراقية ، والتي وقف الأجنبي من ورائها ينفذ مخططاته ومعاهداته .
عاد البصير، وترك السياسة نهائياًً في ربيع سنة1930م .) ولتركه السايسة
موقف ذي دلاله ، جنح اليه العديد من رجال السياسة في تلك الحقبة ، وصورة واضحة لجهود رئيس الوزارء نوري السعيد سنة 1930م. في تفتيت الحركة الوطنية ، التي أبدت نشاطاً كبيراً في معارضة المعاهدة العراقية البريطانية والوزارت التي صادقت عليها . فما أن أعلنت الحكــومة السعيدية حل مجلس الوزراء ، واجراء إنتخابات جديدة ، حتى دعا رئيس الحزب الوطني جعفر ابو التمن الى مقاطعت الانتخابات ، وهنا تتدخل الأيدي الخفية ، لتظهر معارضة إثنين من أعضاء الهيئة الإدارية المركزية للحزب ، هما بهجت زينل ومحمد مهدي البصير، ومن ثم إستقالتهم من الحزب ، وكان تأثير نوري السعيد على أحداث هذا الانشقاق واضحاً ، فزينل كان صديقاً حميماً لنوري السعيد ، ونجح في الانتخابات نائباً عن الكوت ، أما البصير، فقد كانت مكافاتهُ أن أُرسل ببعثة دراسية الى خارج العراق ، حيث أوفد الى مصر، ولم يكتفِ نوري السعيد بهذا ، فقد كسب الى جانبه مزاحم الباجة جي أشهر رجال الحزب الوطني معارضة للمعاهدة ، فجلعهُ وزيراً في وزارته ، فكانت تلك أكبر طعنة وجهت للحركة الوطنية يومذاك .
ويحدثنا البصير، عن الأسباب التي أدت به الى إعتزاله العمل السايسي بشكل نهائي سنة 1930م فيقول: ((لم أجد ممن يعملون بالسياسة حينذاك ، من يعمل للوطنية الخالصة ، ووجدتهم كلهم يعملون من أجل منافعهم الشخصية)).
قال في مقطوعته ((خيانة زميل))
قالوا فــلان قــد تــقــلد منصباً
هو منه في عز وفي سلطان
ويــلــوح ان جــنــانـه ولسانه
لم يبقيا وقـفتا عـلى الأوطان
فأجبتهم : كم كنت منتظراً لما
تستغبرون مــن إنقلاب فلان
هــذي نــواياه وكــان يســرها
فاليوم تعـــلــن ايــمـــا اعلان
لا إبيض وجه مــتــاجر ببلاده
كلف بحب الأصــفـــر الـرنان
وبهذا تكون قد انتهت حياة الرجل السياسية ، بفصولها المليئة بالأحداث المثيرة، انتقل بعدها الى طورآخر، يمثل نمطاً جديداً في حياته ، وهو ميدان العلم والتعليم ، والذي كان البصير يعدهُ أشرف مهنة.
أصبحت فرصة إبعاد محمد مهدي البصير، عن الساحة السياسية العراقية ، سانحة لوزارة نوري السعيد ، وقد كان البصير، يشكل العنصر الصلب والجريء في الحركة الوطنية العراقية ، ولعل الحكومة قد أرادت أن تفتت الحركة الوطنية ، من خلال إبعاد البصيرعن العراق ، مستغلة حبهُ للعلم والمعرفة ، ليتسنى لها التخلص من المعارضة تدريجياً، فقررت إيفاده الى فرنسا.
أوفد محمد مهدي البصير، بناءاً على القرار الصادر من مجلس الوزراء بتاريخ 30 حزيران سنة 1930م الى مصر. ضمن أفراد البعثة العلمية لمديرية أوقاف العراق. لأجل القيام بما أسموه((بتتبعات علمية وأدبية وأجتماعية ودينية)).
وروى البصير موضوع سفره قائلاً ً:ـ
((كنت متفقا مع المسؤولين أولاً بالذهاب الى أوربا..ولكنهم قالوا لي ،قبل أن تذهب الى أوربا عليك ان تمضي سنة دراسية واحدة في مصر ،تدرس فيها اللغة الفرنسية ،وتطلع على الحركة الأدبية فيها ،فوافقت على ذلك المقترح)).
غادر البصير، بغداد في الأول من تموز سنة 1930م إلى سوريا ، ومن هناك إلى مصر ثم فرنسا.
عن: رسالة (محمد مهدي البصير ودوره السياسي)