تظاهرات تشرين.. حسابات الربح والخسارة

Friday 14th of February 2020 08:10:56 PM ,

الحريات اولا ,

إياد العنبر
منذ نهاية الصيف حتى مطلع الربيع، يرابط المتظاهرون في بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية وهم يتحدَّون حملات القتل والاعتقال والخطف والتهديد من عناوين عدّة: قوات أمنية، طرف ثالث، ميليشيات! وكانت النتيجة مئات من الشهداء والآلاف من الجرحى والعشرات من المختطفين.

رغم ذلك قدّم الشباب المرابط في ساحات التظاهر صوراً رائعة من الصمود بمواجهة البطش والعنف، وإصراراً على التمسك بالمطالب الداعية إلى تحقيق إصلاح نظام سياسي الذي كان يتداعى أمام صفقات الفساد وهيمنة طبقة سياسية لم تقدم للعراق سوى الفشل والفساد والموت المجاني وهدر الثروات.
قد أكون متحيزاً للتظاهرات في العراق، واعتبرها قد تجاوزت كثيراً تظاهرات ما وصف بالربيع العربي. لكني أعتقد أن هناك مجموعة من المبررات يمكن أن تسند ادعائي، أولها: في مجتمع تقسمه الطائفية السياسية، كانت جغرافية التظاهرات تضمّ الأغلبية الشيعية، لتؤشر احتجاجاً على سياسات نظام حكم تهيمن عليه أغلبية سياسية شيعية، وبذلك كان شعار المتظاهرين "نريد وطناً" ليكون صرخة تمرد على العناوين السياسية التي حكمت باسم الطائفة، ولكن لم تبنِ دولة ولا وطن.
أما الادعاء الثاني، أن جماهير تظاهرات الربيع العربي خرجت ضد أنظمة شمولية ودكتاتورية ورفعت شعار إسقاط النظام، ومن ثم خضعت بعض الأنظمة لإرادة الشعب وجوبهت بالبطش والعنف في أنظمة أخرى، وفي العراق يفترض أن النظام السياسي عنوانه ديمقراطي، لكن الحكومة والقوى السياسية الداعمة لها نكّلت بالمتظاهرين قتلاً وخطفاً وترهيباً وتخويناً.
والمفارقة هنا، أن من يحكم باسم الديمقراطية كان أول من ارتد عن الالتزام بالتعامل الديمقراطي مع التظاهرات، في قبال متظاهرين يطالبون بتصحيح مسار النظام الديمقراطي من خلال تعديل قانون الانتخابات بما يضمن عدالة التنافس والمشاركة، وإدارة مستقلة ونزيهة للعملية الانتخابية، واستقالة حكومة استباحت دماء المتظاهرين، والذهاب إلى انتخابات مبكرة.
وبجردة حساب لما حققته التظاهرات، نجد الكثيرَ مِن التغيرات في علاقة التعاطي بين السلطة والمجتمع، إذ لطالما كان الرهان على أن تصحيح مسار التحوّل الديمقراطي في العراق مرتهن إلى الأجيال الشبابية بعد تقادم الممارسة بالعملية الديمقراطية، حتى وإن كانت هذه الممارسة تنتقد لأنها شكليات فقط. ولذلك نجد أن التظاهرات أشَّرت نقطة مهمة تسلّطت الأضواء عليها، ألا وهي ضرورة التحوّل بالثقافة السياسية من الانفعالية إلى التفاعلية. ولعلَّ هذا التحوّل يُعد المكسب الرئيس في تظاهرات أكتوبر 2019.
الدور المتميز في ديمومة التظاهرات كان للمشاركة الطلابية، إذ إنها أعادت للذاكرة الحضور الطلابي في تاريخ حركات الاحتجاج في منتصف القرن الماضي
ورغم المماطلة والتسويف في الاستجابة لمطالب المتظاهرين، إلا أن في جميع الجولات كانت ساحات التظاهر هي الرابحة. حتى أصبحت العلاقة بين المتظاهرين من جهة، وحكومة عبد المهدي والقوى الداعمة لها من جهة أخرى، قائمة على أساس صراع الإرادات. فالسلطة والطبقة السياسية لم تتعاطَ مع التظاهرات بمنطق الدولة، ولذلك جرّبت جميع الأساليب القمعية وتشويه صورة التظاهرات والمتظاهرين التي تعتقد أنها قد تؤدي إلى إضعافها أو نهايتها، لكنها لم تفكر بطرق الاستجابة لمطالب المتظاهرين.
وبالنتيجة ربحت التظاهرات ـ بتضحيات شبابها ـ مكسباً تمثَّل بتعديل قانون الانتخابات، وتغيير المفوضية العليا للانتخابات، واستقالة الحكومة، والوعود بانتخابات مبكّرة. وجميعها تعبّر عن كسر إرادة الطبقة السياسية التي تجاهلت مطالب الشارع في تصحيح مدخلات العملية السياسية لسنوات مضت، وكانت تعمل على أن تشريع وتنفيذ القانون بما يخدم بقائها بالحُكم وليس خدمة للمصلحة العامة.