بندر عبد الحميد..شاعر كأنه مدينة

Tuesday 25th of February 2020 07:33:10 PM ,

منارات ,

بسمة شيخو
قلةٌ هم من يُحسدون بعد موتهم، وأظنّ بندر عبد الحميد أحدهم اليوم، فكمية المحبة التي حازها الشاعر والناقد السينمائي تكاد لا تصدّق، وهي ليست محبة مجانية بالطبع، بل إن الراحل استحقها بإنسانيته وسموه الأخلاقي، الذي جعله قِبلةً للزائرين العرب قبل السوريين وباباً مفتوحاً لكلّ من يقصده، قصصه الآن تتزاحم على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي،

وكأنّ الجميع عرفه وزاره إلاي، فأنا من سيئي الحظ الذين لم يعرفوه شخصياً، كانت أمسية في السويداء ستجمعني معه منذ شهور، لكنها أُجلت حينها والآن باتت غصة كلّما تذكرتها.
ادخلوا ( : )
الشاعر العراقي عبد الكريم كاصد يقول قبل أيام ليست بعيدة تحدثت مع الصديق الشاعر سامي أحمد صاحب «دار التكوين» للنشر، عبر الهاتف، فأخبرني بوجود صديق عزيز يرغب في التحدث إليّ، فكان ذلك الخبر مفاجأة سارة حقّا. إنه بندر الذي يحدثني.. بندر عبد الحميد الشاعر والصديق الذي تمتدّ صداقتي معه إلى سنوات الدراسة في جامعة دمشق،
لم أتخيل نفسي وأنا أحدثه إلا على بعد خطوتين من دمشق الحبيبة، التي أمضيت فيها أجمل السنوات، رغم مصاعبها، دارساً ومنفياً، فاشتد بي وبه الحماس لأعده بزيارتي له، وليعدني بضيافته لي، ولم أتخيل يوما خبراً كهذا الذي فاجأني أمس برحيله عنا أبداً.. بندر الجميل الذي لم يغلق بابه بوجه أحدٍ ـ حتى لو كان لا يرغب في مجيء أحدٍ، وجلّ ما يفعله هو، كما يقول عنه صديقه الراحل الشاعر مهدي محمد علي «يغمغم باستنكار ناحل: أدخلوا؟».
من لا يتذكر بندر الأليف النادر.. بندر الذي وسع قلبه الجميع، مثلما وسعت شقته الصغيرة المتواضعة الجميع، بدون أن يكون شخصاً آخر غير بندر المتفرّد، الذي لا يشبه أحداً ولا يشبهه أحدٌ، وسط محبّيه القادمين، حتى من أقصى بقاع الأرض ممن يزورونه، مثلما نزوره، بلا كلفة وكأنهم في بيوتهم النائية وسط أهلهم الغريبين الناطقين بلغات أخرى.
وأما الناقد والصحافي الفلسطيني السوري راشد عيسى فيقول:
ألف رحمة للشاعر والإنسان الجميل بندر عبدالحميد. قلّما يُرثى رجل كما لو أنه حيّ، أو شارع، ومدينة.
وداعاً:
أما الناقد السينمائي العُماني عبد الله حبيب فكان يسألني عن الراحل ويطمئن على أخباره، على الرّغم من أن علاقته معه كانت أقرب إلى الزمالة، جمعتهما السينما فقد ترجم أ. عبد الله حبيبي لبريسون في سلسلة الفن السابع التي كان بندر مشرفاً على إصداراتها، وقد نشر على حسابه في الفيسبوك:
وداعاً…
في دمشق، في أبوظبي، في مسقط، في ضحكتك المكتومة، في خطّك الخفور، في رسائلك الأكثر أناقة من الغياب، في احتفائك بترجمتي لبريسون (وفي اقتراحاتك الباهظة لمزيد من الترجمات)، في الموت يجعلنا نتكاثر هناك ونتناقص هنا…
وداعاً، وداعاً، وداعاً بندر عبدالحميد.
حزينون كاليتامى:
أصدقاء بندر المقرّبون ملأت الصدمة جوارحهم، فكتب الروائي خليل صويلح على صفحته الشخصية على الفيسبوك (ثم غادر وحيداً- بندر عبد الحميد ذات ظهيرة-) وكأنه أنهى سيرة حياة هذا الشاعر بعبارته تلك، بعد أن أعلن يتم دمشق بوفاته؛ أما الناشر سامي أحمد فأعلن الحداد في دار تكوين لمدة ثلاثة أيام على رحيل آخر الأساطير في دمشق. الناشر مجد حيدر كتب «عشرُ سنواتٍ من الحروبِ الأهلية القذرة سممت وكوبست أرواحنا وأوقاتنا وأحلامنا، ولم تترك لنا إلا فُتات السهر المُبتسر الأصفر، وقتلت روح الحياة في أصغرِ ذراتِ وجودنا. هذه كلمات بندر عبد الحميد حين التقيته في معرض الكتاب هذا الصيف في دمشق، بعدَ غياب مديد طوال سنوات الجمر. إنها تختزلُ عمرنا الذي مضى غيرُ مأسوفٍ عليه متلطينَ خلفَ أوطانٍ وهمية فاقدة للذاكرة. بندر عبد الحميد، أيها الكائن الأثيري الأبيض، لقد انتهى الكابوس والسمُّ بالنسبة لكَ، أما نحنُ فما زلنا في قبورنا المُشرعة الفاغرة أفواهها نحوَ السماء».
الشاعرة رشا عمران عرفت الراحل منذ طفولتها، فهو صديق والدها الشاعر محمد عمران ولا كلمات تكفيها لتلخّص تاريخها الطويل معه؛ الشاعر نزيه أبو عفش يعاتبه: «غافَلَنا جميعاً – نحن أواخرَ الباقين من كتيبةِ المرشَّحين للرحيل -واختطفَ، بدون أن ينتبه إليه أحد، ميدالية بلوغِ نهاية المضمار: غَلَبنا في سباقِ الموت. لشدّ ما نحن حزينون.. حزينون كيتامى).

بيت شارع العابد قِبلة المثقفين:
هيثم حقّي تذكّر منزل شارع العابد ـ الذي ذكره كثر غيره – قِبلة الشعراء والنّقاد والرسامين والصحافيين ونعى صاحبها: (صديقي الغالي.. وداعاً للشاعر والناقد والإنسان الرائع.. يا للخبر الصاعق.. جمعتني ببندر صداقة ومودة استمرت قرابة الأربعين عاماً.. بيت بندر الصغير في ذاكرة أبناء جيلنا، كان يجمع مثقفي السبعينيات في جلسات حوار وجدل لا ينتهي… كم هو مؤلم ألا أكون في وداعك يا صديقي… لك الذّكر الطيب والعزاء لأصدقائك ومحبيك الكثر، وأخص صديقنا الحبيب جبر علوان الذي جمعته بك في السنوات الأخيرة محبة أعرف قدرها.. وداعاً بندر… لقد غابت رقصتك البدوية الحضرية المميزة، التي كانت تبعث دائماً البهجة والفرح).

صاحب خيمة تظلّل الجميع:
الشّاعر والنّاقد بيان الصّفدي يقول في شهادته عن الراحل: «من الصعب أن نوجز الكلام في بندر عبد الحميد، إنه أشبه بظاهرة بشرية يندر أن تتكرر وسط ما هو معروف من رياء البشر، والمبدعين والمثقفين خاصة، رجل يمتلك طاقة محبة وعطاء وتسامح وكرم، تعجب كيف تجمعت في شخصه! بندر صاحب شقة صغيرة بباب مفتوح دائماً لأي طارقِ نهارا أو ليلا، صاحب مائدة ممدودة منذ عقود، فيها طعام وشراب يكثر أو يقل، يكون بسيطاً غالباً وفاخراً أحياناً، لكنه يكفي الجالسين، حتى لو زادوا عن عشرة، لا جنسية لطارقي بابه، ستجدهم من كل مكان وقومية، ودين وانتماء سياسي. في حضرة بندر أنت مع رجل على شكل قلب مفتوح، حتى لمن نضيق بهم وبهن، لا يملك سوى أن يفتح مضافته، وأن يكون البدوي الذي يجمع بين الجميع، ويرعى طلباتهم كصاحب خيمة تظلل الجميع. مع هذا فلبندر شخصيته الفذة المنسوجة بدقة وعمق وشمولية وأصالة، فهو شاعر مميز، وناقد سينمائي وتشكيلي من طراز رفيع، وصحافي ثقافي من الصف الأول، وناشط ثقافي وراعي إبداع ذو خبرة هائلة بالساحات الثقافية العربية. بندر لا يخوض معارك صغيرة على عادة المثقفين، ويندر أن يذكر بسوء شخصي أحداً، وإذا حصل وذكر ما يعرفه من مطاعن على أحدهم، حرص على أن يكون ذلك نادراً، وفي أضيق دائرة، فهو مشغول دائماً بالقراءة والحب والصداقة والعمل، ويواجه ما عدا ذلك بسخرية عذبة أو بسمة أو تجاهل، لا يحرص على نجومية فارغة، ولا تهافت على لمعان إعلامي، ولا أنسى أنني فشلت في إقناعه بالموافقة على طباعة أعماله الكاملة، ضمن مطبوعات هيئة الكتاب عندنا، فظل يتملص من الأمر على عكس الجميع. شخصياً أعيش حياتي ـ كما هو معروف عني- بلا صداقات شخصية عميقة مع المثقفين، ما عدا قلة تعد على أصابع اليد الواحدة، كان بندر منها بالتأكيد، لأنني كلما ضاق الصدر، واشتدت الظلمة، كنت أهرع إليه لأعيد ثقتي بالخبز والملح والكلمة، وحتى يصيبني بعدوى الحياة. لهذا السبب، ولأنه صديق قبل كل شيء، ومنذ أربعين عاماً، فقد تهدم اليوم ركن في حياتي، وليس باستطاعة أحد أن يعيده إليّ. بندر كان أحد الذين نشعر معهم بأن الحياة جديرة بالعيش، والثقافة تستحق العناء والاحترام. رحل ليختتم قصيدته في بلد يتهدم، فكان موته شهادة على غربة تقود أرواحنا لتنام بوحشة في ثلاجة موتى، الموتى الذين ينتظرون من يأخذ بجثثهم إلى التراب الذي أحبوه حدَّ الموت».

متحف الشاعر بندر عبد الحميد
الشاعر عبد الله الحامدي يقول: لا يزال الزلزال السوري يلقي بتوابعه، ويومٌ آخر حزين برحيل الشاعر الهادئ بندر عبد الحميد، لم يكن صاخبا تحت الأضواء، ولا فوق سجادة قصائده الحمراء المتمردة، كانت قصيدته تشبهه، جزراوية منفتحة صادقة، ولكنها صادمة بكونيتها المنمنمة في عبارة، صورة، غرفة، غرفته التي سيفتقدها كل من عرفه وسيعرفه لاحقًا من الأجيال. في وطن أسطوريّ بتراجيديته وكوميديته، استطاع أن يفقد في بضع سنوات آثارًا وحواضرَ صمدتْ ضد الغزوات والحروب آلاف السنوات، تبدو من الفانتازيا المطالبة بتحويل شقة إلى متحف، وقد تحوّلت المتاحف ذاتها إلى شقق على العظم! لكننا سنطالب بهذا المتحف الصغير للشاعر والناقد السينمائي بندر عبد الحميد في قلب دمشق، حتى لو كان بندر نفسه لا يأبه بمثل هذه الحفاوة، ويحن إلى فضائه الأرحب:
أذبح قلبي مشتاقًا للعشب
وموسيقى الماء
أحفر بئرًا في الصحراء.
*بندر عبد الحميد: ولد في « قرية تل صفوك القريبة من الحسكة» – الحسكة عام 1947.
تلقى تعليمه في الحسكة، وتخرج في جامعة دمشق حاملاً الإجازة في اللغة العربية، سافر إلى هنغاريا عام 1979 لدراسة الصحافة، عمل في الصحافة وهو عضو جمعية الشعر في اتحاد الكتاب العرب.
مؤلفاته:
كالغزالة كصوت الماء والريح – شعر- دمشق 1975.
إعلانات الموت والحرية – شعر- دمشق 1978.
احتفالات – شعر- دمشق 1979.
كانت طويلة في المساء – شعر- دمشق 1980.
مغامرات الأصابع والعيون – شعر- دمشق 1981.
الطاحونة السوداء – رواية- دمشق 1984.
الضحك والكارثة – شعر- لندن- 1994.
وله أيضاً رواية «الطاحونة السوداء».. وغيرها الكثير إضافة إلى كتب بحثية منها «مغامرة الفن الحديث» و»ساحرات السينما»، فن وحب وحرية» و»سينمائيون بلا حدود