ارنستو كاردينال صلاة من أجل الانسان

Tuesday 10th of March 2020 06:55:55 PM ,

منارات ,

علي حسين
كان على فراش المرض في شباط 2019 ، يعاني من متاعب القلب حين اخبرته ابنته ان بابا الفاتيكان فرنسيس الغى العقوبات الكنسية التي صدرت ضده قبل اكثر من ثلاثين عاما . يبتسم في وجه ابنته ويتذكر وهو العجوز الذي بلغ الرابعة والتسعين من عمره كيف وقف عام 1983 في وجه بابا الفاتيكان آنذاك يوحنا بولس الثاني الذي استنكر عليه جمعه للعمل السياسي مع مهمته الدينىة ، ،

وتأسيس في نيكاراغو ما عُرف بـ " الكنيسة التحرّرية " التي حاولت التوفيق بين تعاليم المسيحية والماركسية خدمة لشعوبها الفقيرة .
يتذكرالشاعر والمناضل ارنستو كاردينال الذي رحل عن عامنا قبل ثلاثة ايام بعد ان عاش 95 سنة صاخبة بالنضال والسياسة والشعر والدين ، أن يوحنا بولس الثاني زار نيكاراغوا عام 1983 ، وفي مطار العاصمة ماناغوا ظهر ارنستو بين القساوسة الذين تكفلوا بمهة استقبال البابا ، وقد اثار منظره وسائل الاعلام التي كانت تغطي الزيارة فوسط اربعة قساوسة يرتدون الملابس الدينية ، كان القس الخامس ارنستو كاردينال يرتدي قميصاً أبيض وبنطلوناً وقبعة سوداء شبيهة بقبعة جيفارا ، وعندما انحنى الرهبان الخمسة لتقبيل يد البابا، سحب يوحنا بولس الثاني يده قبل ان يقبلها ارنستو ولوّح له بإصبعه وهو يتحدّث إليه بغضب : "عليك أن تصحّح موقفك مع الكنيسة ". بعدها سيصدر البابا قرارا بحرمان ارنستو من مزاولة مهامه الدينية ، قال في مقابلة مع نيويورك تايمز عام 1984 ردا على قرار الفاتيكان :" المسيح قادني إلى ماركس. لا أعتقد أن البابا يفهم الماركسية. بالنسبة لي ، الأناجيل الأربعة كلها شيوعية على قدم المساواة. أنا ماركسي يؤمن بالله ، يتبع المسيح ، وثوري من أجل مملكته ". وبعد ثلاثين عاما سيقول لصحيفة نيويورك تايمز ايضا عام 2015 :" أنا ثوري والثورية تعني أنني أريد تغيير العالم " ويضيف : "إن الكتاب المقدس مليء بالثورات. الأنبياء أناس يحملون رسالة ثورة. يسوع الناصري يأخذ الرسالة الثورية للأنبياء. وسوف نستمر أيضًا في محاولة تغيير العالم وإحداث ثورة. لقد فشلت تلك الثورات ، لكن البعض الآخر سيأتي ".
عاش ارنستو كاردينال مؤمنا بقناعاته السياسية والدينية ايضا ، فهو تعلم ان يعيش في مواجهة دائمة مع السلطات المستبدة ، وايضا مع الكنيسة التي كان يرى انها لا تهتم باحوال المعدمين ، فهو يؤمن ان الكنيسة لابد ان تدعم ثورات الشعوب المقهورة ، وتدافع عن المستضعفين ، وظل ينتقد تحالف الكتيسة مع رجال الحكم :" إن ما يسمى بالكنيسة الأم قد خانت الإنجيل وخذلته، فالفاتيكان في ممارساته مختلفٌ تماماً عن الروابط التي أسّسها المسيح مع بعض الصيادين ، إن تجربة " لاهوت التحرير " كانت تجربة متواضعة، لكنها تحوّلت إلى أسطورة، لقد كنّا في واقع الأمر جماعة صغيرة، أجل، كنا شبه كومونة على طريقة المسيحيين الأوائل، مسيحيون مجدّدون متبنون لنظرية (لاهوت التحرير) بتوجه ماركسي، هكذا أخضعنا الإنجيل لتأويلنا، لقد كانت تجربة متفردة " .
وعلى فراش المرض حين تساله ابنته هل انت سعيد بقرار البابا فرنسيس ، يجيب مبتسما :" عشت حياتي لكي اكون رجلا صالحا ".فهو يؤمن ان لاتناقض بين الدين والسياسة .. وكان يضع صورة ماركس الى جانب صورة المسيح ومعهما كاتبه المفضل نيكوس كازانتزاكيس الذي قررعندما كان في الثلاثين من عمره عام 1955 ان يزوره ، ورغم ان الكاتب اليوناني الشهير لم يولي اهتماما لهذا الشاب القادم من احدى بلدان اميركا اللاتينية ، إلا ان ارنستو اصر ان يقول له :" ياسيدي المبجل ، اتمنى في يوم من الايام ان اعيش مثلما عاش ابطال رواياتك متنقلين بين الخطيئة والايمان ، ادع لي في صلاتك " .
كنت قد قرأت اسم ارنستو كاردينال في بداية الثمانينات ، حيث نشرت مجلة الاقلام آنذاك ملفا بعنوان " قصائد مقاومة ارنستو كاردينال " وكانت القصائد عن الاسبانية ترجمها محمد عبد الله الجعيدي ، والمثير ان الملف الذي لازلت احتفظ به مع قصائد كثيرة لارنستو كاردينال كنت اقتطعها من المجلات الادبية ، هذا الملف زينته تخطيطات للفنانة هناء مال الله ، وهي واحدة من ابرز رسامي ثقافة الاطفال قبل ان تصبح واحدة من ابرز التشكيليات ، حيث تعرض اعمالها اليوم في عدد من المتاحف العالمية ومنها متحف لندن ، واتذكر انني ربما اول صحفي يجري لقاء مع الفتاة الخجولة هناء مال الله ونشر عام 1980 في الصفحة الاخيرة من جريدة الجمهورية . اعود الى ارنستو كاردينال وملفه العجيب في الاقلام والذي كان بـ25 صفحة ؟، قدم فيها المترجم تعريفاً مختصراً بالشاعر النيكورغواي مع مجموعة مختارة من قصائده ولازلت احفظ هذا المقطع الشعري المدهش :
قصائدنا حتى الان يستحيل نشرها
تتناقلها الايدي مخطوطة
او مصورة
لكن ،
يوما سيمحى اسم الطاغية
الذي ضده كتبت
وستظل هي مقروءة .
كانت القصيدة مدهشة وغريبة في نفس الوقت ، فهي ربما تصف حالنا نحن في العراق الذين نتناقل سرا في تلك الايام ديوان سعدي يوسف واشعار مظفر النواب والجواهري التي ظلت مقروءة فيما غاب الدكتاتور ، كان رئيس تحرير الاقلام آنذاك الناقد والشعر الكبير علي جعفر العلاق ، وكانت المجلة في عهده تعد واحدة من ابرز المجلات الثقافية العربية .
ولد ارنستو كاردينال مارتينيز في مدينة غرناطة قرب العاصمة ماناغوا في الخامس والعشرين من كانون الاول عام 1925 لعائلة من اثرياء نيكاراغوا ، كان الاب تاجرا يعشق القراءة وفي نفس الوقت يتمنى ان يدرس اولاده اللاهوت ليصبحوا قساوسة ، كتب الشعر في سن مبكرة : " لقد بدأت في كتابة الشعر عندما كان عمري حوالي أربع سنوات. وبعبارة أخرى، كنت دائماً أكتب الشعر".سيقرا كتب الفلسفة مبكرا ، تشغله تساؤلات سبينوزا ، ويجد ان الحل مع ماركس المسيحي ، وليس ماركس الملحد . في الخامسة عشر من عمره يغادر بلاده الى المكسيك لدراسة الادب والفلسفة وقد اعد اطروحة عن الشعر النيكاراغوي ، وكتب خلال هذه الفترة مجموعة شعرية بعنوان " المدينة المهجورة " ضمت قصائد حب ، سيرفض نشرها فيما بعد الى ان ضمتها مجموعته الشعرية الكاملة : " كانت تلك ايام الصبا والمراهقة ، لم اكن اعرف العالم بعد " ، وفي واحدة من تلك القصائد الجميلة سيبث شكواه الى حبيبته التي تركته :"
عندما فقدتك
أنا وانت خسرنا :
خسرت لأنك أعز ما احببت
وخسرتِ لأنني احببتك أكثر
أما عن خسارتنا معاً
فانت الخاسرة الكبرى
لأنني استطيع أن أحب أخريات كما أحببتك
أما أنتِ فلن يحبوك كما أحببتك أنا .
عام 1945 سينتقل الى الولايات المتحدة للدراسة في جامعة كولومبيا في نيويورك هناك يتتلمذ على اشعار عزرا باوند ، حاول ان يبحث عن الشاعر المتمرد ، لكنهم ابلغوه انه محتجز في مستشفى بواشنطن بعد ان وصمه محاميه بالجنون حتى لا يحاكم بتهمة الخيانة العظمى . كانت قصائد الشاعر الاميركي العبقري قد نبهت ارنستو إلى ان الشعر يجب ان يكون اكثر واقعية ويتخلص من النزعة الرومانسية ، وان يفتح نافذة على القديم ، عاش عزرا باوند حياة قلقة ، مابين ولادته عام 1885 في ولاية آيداهو الاميركية ، وموته في مدينة البندقية الايطالية عام 1972 .عام 1908 يتأبط عزرا باوند حقيبة خفيفة بها كتب قليلة وديوان شعر رفضه الناشرون واتجه الى انكلترا ، حيث يتعرف على اليوت ويشجعه على نشر ديوان " الارض الخراب " بعدها يسافر الى باريس حيث يلتقي جيميس جويس الذي تسحره قصائد باوند ، في اوربا سيتوج باوند باعتباره أستاذ القصيدة الحديثة في اوربا ، والشاعر الذي اعاد للقصيدة الوضوح والإيجاز ، وهي الصفات التي امتاز بها شعر ارنستو كاردينال ، حيث شهدت قصائد ارنستو بعد تعرفه على اشعار عزرا باوند تطورا كبيرا ، وغلب عليها الاحساس بالالم تجاة معاناة الانسان . في نهاية الاربعينيات يزور مدريد ، ثم يعود عام 1951 الى بلاده لينشر بعض القصائد ابرزها " المضيق المريب " ، التي يشرح فيها احوال اميركا اللاتينية ، وهي القصيدة التي يبدو فيها تاثير عزرا باوند واضحا ، حيث يمزج الماضي العريق ، بالحاضر الظالم ، وفي هذه الفترة كتب ديوانه " هجائيات " ليضعه في مصاف جيل الطليعة من شعراء اميركا اللاتينية ، ويبدأ ايضا نشاطه السياسي ، حيث يتحول الى انسان مطارد من السلطات ، وفي مخبئه سيشارك في الاعداد للثورة التي اندلعت عام 1954 :
وزعت منشورات سرية
تحديت الحراس المدججين بالسلاح
وصحت في منتصف الشارع :
تحيا الحرية .
عام 1957 يلتحق ارنستو بالقس توماس ميترون صاحب المفهوم الدنيوي التقدمي الثوري للدين ، وبعد عامين سيكتب كتابا عن تجربته هذه ، جاعلا من الحب سندا تقوم عليه حياة الانسان . وفي الكتاب يؤكد ارنستو ان جزاء الانسان النهائي لن يكن بعد الموت، بل سيكون في الأرض بعدما ستنتهي كل مظاهر الاستغلال ، وهو يرى أن الله قوة التحولات الاجتماعية، وقوة الثورات. بل ويعتبره قوة الحب أيضا .
في هذه الفترة ينشر ديوانه " مزامير " . عام 1965 تعينه الكنيسة قسا بجزر الارخبيل ، وهناك يقرر ان يقيم جماعة تأملية ثورية تعمل على مساعدة الفلاحين والصيادين ، وعندما تعلم حكومة سوماثا بمجموعة ارنستو يبدأ الهجوم عليها ، فيضطر للهرب ، عام 1967 يدعوه كاسترو الى كوبا ، فيعجب بالنظام الكوبي ويلتقي غيفارا الذي يدهشه ايمان ارنستو بالثورة والله معا فيطلق عليه لقب قديس الثورات ، يتنقل خلال هذه السنوات بين كوبا وكوستريكا واوربا يثقف للثورة الساندينية حتى يصبح عام 1979 وزيرا لاعلام حكومة الثورة المؤقتة بعد أن أطاحت
الجبهة الساندينية بالدكتاتور أناستاسيو سوموزا عام 1979..لكنه بعد سنوات سيختلف مع رفيقه في الثورة ، دانييل أورتيغا، الذي اتهمه بانه يمارس تسلّطه عبر "حكم العائلة" ليعلن خيبة أمله ومعارضته الشديدة لما آلت إليه الثورة السندينية التي شارك في قيادتها، ولم تكن توجهات أورتيغا لترضي أحلام كاردينال بوطن حرّ عادل، إذ أعلن معارضته الكاملة لمنهاجه في الحكم الّذي يخطو نحو الدكتاتوريّة، مما أثار حفيظة الأخير فضيّق عليه الخناق بتلفيق تهمة له وإجباره على الإقامة الجبرية في منزله.
في سنواته الأخيرة سيهتم بمتابعة التطور العلمي وسيعكف على اعادة قراءة الفلسفة من جديد :" أقرأ العديد من النصوص العلمية، أقرأ في الأحياء، وعلم الإنسان وعلم الأعراق، والفيزياء والفلك. أتحمس كثيراً للكون والمجرات، للأسماك والفراشات. بالنسبة لي هي جزء من الشعر، إنَّها علوم شعريّة".. لكنه ظل يؤكد ان أمام العالم المتحضّر تكنولوجياً وعولميّاً ، لا بدَّ أن يتغيَّر هذا العالم، وعلينا تعديله.
في جزيرة جزيرة "سولونتونامي" قرر ان يقضي ما تبقى من حياته بعيدا عن صخب العاصمة ، وقد اعتاد سكان الجزيرة على مشاهدة شاعرهم المحبوب وهو يرتدي قميصاً أبيض وقبعة جيفارا السوداء .
يؤمن ارنستو كاردينال بان الشعر يجب ان يكون قريبا من الناس :" شِعري بقي كما هو دائماً. من الممكن تمييزه، فهو مفهوم، يُكتب كما يُقال، ليس معزولاً، أنا مع الشعر الذي يُفهم" .
من المصادفات العجيبة ان احد الاصدقاء اشترى لي من معرض القاهرة للكتاب والذي اقيم قبل شهر كتاب بعنوان " صلاة لأجل مارلين مونرو " وهو كتاب يجمع فيه مترجمه رياض حمادي شذرات مارلين مونرو، الشعرية التي صدرت بالإنكليزية لأول مرة في أكتوبر 2010 ، وسيفتتح المترجم الكتاب بقصيدة ارنستو كاردينال الشهيرة " صلاة لأجل مارلين مونرو " وضيف للكتاب ايضا قصائد لشاعرات يجمعهن بمارلين مونرو مصير واحد هو الموت المبكر بقرار شخصي.
صلاة من أجل مارلين مونرو
إلهي
تقبّل هذه السيدة المعروفة باسم مارلين مونرو في كل بقاع الأرض
على الرغم من أنّ هذا ليس اسمها
( أنت وحدك من يعرف اسمها الحقيقي، اسم اليتيمة المغتصبة في سن التاسعة، وخادمة المتجر الصّغيرة ذات الستة عشر ربيعاً، حيث أرادت أن تقتل نفسها)
ها هي الآن بين يديك
من دون مكياج
من دون وكيلها الصحفي
أو تواقيع للذكرى
فقط كرائدة فضاء في ليلك الفسيح.
على ذمَة "التايمز"، كانت قد حلمت في طفولتها
أنها تقف عاريةً في كنيسةٍ
أمام حشدٍ من النّاس الساجدين
كان عليها أن تسير على أصابع قدميها كي لا تدوس رؤوسهم.
أنت تعرف أحلامنا أفضل مما يعرفها علماء النفس
إلهي
في هذا العالم الملوّث بالخطايا والإشعاعات
لن تحاسب عاملة في متجرٍ
حلُمت كغيرها أن تُصبح نجمة سينما.
وصار الحلم حقيقةً (لكنّها شبيهةٌ بالأفلام الملونة)
لم تفعل شيئاً غير أنّها أدَّت الدَّور الذي أعطيناها إياه
- مشهد حياتنا- الذي كان مشهداً صامتاً.
اغفر لها يا إلهي ولنا
لقرننا العشرين
لتكلفة الإنتاج المرتفعة التي عملنا من أجلها جميعاً
كان لديها جوعٌ للحب ولم نمنحها سوى مُهدِّئات
كما أوصى الأطباء النفسيون
طالما أننا لسنا قدّيسين
بعد اعلان وفاة ارنستو كاردينال قرر زميله في النضال وغريمه فيما بعد
الرئيس دانيال أورتيغا اعلان الحداد العام في نيكاراغوا لمدة ثلاثة أيام.